اسم الكاتب : مروة الاسدي
هل حقاً للإعلام التأثير الاكبر في عقول الناس؟ وهل هذا التأثير يمكنه تغيير افكارهم واراءهم، مما قد يسهم في تغير قيمهم وسلوكياتهم عبر اساليب الحرب النفسية الاعلامية؟ هل للإعلام القدرة في تحويل الافكار والقيم العليا الى افكار وقيم دخيلة تنافي الثوابت الاجتماعية؟
الاجابة على التساؤلات اعلاه تتم عبر احد اخطر اساليب الحرب النفسية وهو (التسميم السياسي) ويعرف بانه “عملية غرس قيم دخيلة في نظام القيم السائدة في المجتمع، ثم تضخيم تلك القيم تدريجياً لترتفع إلى مستوى القيمة العليا بما يعنيه ذلك من إضعاف لتلك القيمة العليا التأريخية وإحالتها إلى مستوى القيم الفرعية التابعة والثانوية”.
ويشكل هذا الامر خطورة بالغة جداً كون الدول التي تقوم بهذه العملية لا تمارسها بطريقة مباشرة بل تسخر الافراد والاجهزة والادوات جميعاً لخدمتها، للتأثير في نفسيات وعقول وذاكرة المجتمع، ولاسيما النخب الفكرية والثقافية وشخصيات مؤثرة في المجتمع، عن طريق الكذب والتضليل اذ تؤثر فيهم وتنقل لهم افكار مغايرة وقيم دخيلة بقصد تغيير أو تدمير مواقف معينة، تحل محل القيم الاصيلة والعادات الثابتة، وتؤدي إلى سلوك يتفق مع مصالح وأهداف من يقوم بعملية التسميم السياسي.
ويقدم عبر أدوات الدعاية ووسائل الإعلام المختلفة، عن طريق تكرار وتمرير الافكار بشكل مباشر او غير مباشر عليهم، ويصدقونها ويؤمنوا بها، وينتج عنه صناعة النخب الموالية التي بدورها تنقل تلك الافكار وتؤثر في عامة المجتمع بشكل تدريجي ومباغت.
إذ تروِج بعض البرامج التي تبث عبر وسائل الاعلام العديد من هذه القيم والافكار، كالانفتاح السياسي والمجتمعي غير المحدود وزواج المثلية والاساءة لشخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والتعاليم الاسلامية وغيرها الكثير، من دون ان يدرك الفرد اثر هذه الافكار الدخيلة على طبيعة حياته ومجتمعه وبالتالي تؤدي الى خلخلة نظام الاسرة والمجتمع، وهذا اشد على المجتمعات من الحروب العسكرية.
ومن ابرز امثلة التسميم السياسي التي تعرض عبر وسائل الاعلام، برنامج (جعفر توك) الذي يبث عبر القناة الالمانية DW عربية من برلين ويوصف بانه برنامج حواري وتفاعلي تطرح فيه توجهات سياسية أو دينية أو جندرية وغيرها من التوجهات، يمررون عن طريقه رسائل مبطنة تحمل مضمون مغاير لما يطرح، ويستهدف فيه مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي او فنانين لديهم جمهور واسع من بلدان عربية مختلفة، محاولاً التأثير عليهم دعائياً وتغيير آرائهم عبر اسئلة قصدية وجدلية يحرج فيها الضيوف بذريعة حرية الرأي والحداثة وبالتالي هو يؤثر في متابعين هؤلاء المشاهير، فاستخدمهم كأداة لتحقيق مآرب خاصة تخدمهم وتؤدي الى تفكيك الاسرة والمجتمع، يشجعون الاختلاف، وفي حقيقة الامر يدعمون التخلف القيمي.
ومثالاً اخر يشترك في الهدف الدعائي ذاته برنامج (في فلك الممنوع) الذي تبثه قناة فرانس 24 ويستخدم الالية ذاتها بالتأثير على النخب وتتم عملية التسميم السياسي عبر استخدام الترويض التدريجي لأفكار المتلقي العربي والتأثير على مفاهيم ومفردات وثقافة وتوجهات معينة يتم ترسيخها عبر خلق صورة نمطية مؤيدة واخرى رافضة حول قضايا تمس القيم المجتمعية والدينية بهدف تغيير وعيه، وعندها يبدأ الفرد يتقبل كل شيء لأنها ترسخ في عقله بأنه حر بكل انواع الافكار والآراء كحق من حقوق الانسان متناسين المسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمعات، وتستمر بهذه الحرب النفسية الدعائية الى ان تصل لهدفها في تحطيم الروح المعنوية المتبقية لأي طرف ما زال يراهن على شيء عبر اسلوب التكرار الدعائي بتكثيف المشاهد التي تكرس الاحباط، والتحويل التدريجي لمستوى التناقض مع العدو بالنزول بمستوياته من الصراع الى النزاع فالتنافس فالخلاف.
وبهذا انقلبت وظيفة الاعلام واصبحت سائدة عمليات التسميم الاعلامي اضافة الى التسميم السياسي، بدلاً من ان نستخدم التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال لتحقيق اهداف تؤدي الى تقدم المجتمع والارتقاء به وتحافظ على المجتمعات، اصبحت تلك الوسائل تعمل على ترويج قيم سيئة ودخيلة تهيمن على حياة الافراد بمختلف جوانبها.
وينطلق التسميم السياسي من أربعة مفاهيم أساسية هي:
1- إمكانية خلق التحلل في نظام القيم الجماعية بطريق غير مباشر.
2- تطويع الإرادة القومية من الداخل من خلال التعامل النفسي المباشر.
3- التدرج في عملية التوجه السياسي من مستوى زرع القيم إلى مستوى تضخيم القيم المزروعة.
4- جعل مفهوم تفتيت الوحدة الوطنية أساساً مطلقاً بوصفه مقدمة لتخطي الصراع العضوي في مواجهة الاستعمار التقليدي.
أشكال التسميم السياسي:
إن التسمم في حدود تأثيره في الجسد السياسي المستهدف يتخذ صورة أو أكثر من الصور والأشكال التالية:
1- التطبيع: بمعنى إيهام الطرف الآخر بالتحول من حالة العداوة التقليدية والصراع المصيري إلى حالة التعايش الطبيعي بانتزاع إرادة المقاومة من العقول التي تؤدي بالنتيجة إلى انتزاع الأسلحة من الأيادي والاستسلام لحالة الاسترخاء وقبول الأمور الواقع.
2- التطويع: وهو تسيير الإرادة من طريقها الطبيعي والأصيل إلى طريق آخر إذ يروضها القائم بعملية التسميم وغالباً ما يحاصر في إطار هذه الصورة القيادات الفكرية والنخب المثقفة.
3- الاغتراب: أي جعل الفرد مغترباً عن مجتمعه والثقافة التي يعيشها ودفعه إلى اتخاذ موقف غير ودي منها وتبعاً لذلك فالتسميم لهذه الصورة يعمل على خلق حالة من الصراع بين الذات الفردية ومحيطها الاجتماعي والثقافي.
4- التفجير: وهو صورة من صور فك الأواصر بين عناصر الجسد السياسي وبعثرتها بحيث يغدو كل عنصر عاجزاً عن أداء وظائفه الطبيعية بشكل كامل وإزاء هذا النقص يبدو القائم بالتسمم بصورة المحسن الذي لا يبخل بتقديم خدماته للجسد المريض بجرعات محسوبة.
5- الاحتواء: إذ يأخذ الجسد السياسي بعد أن تقطع أوصاله صورة التبعية الشاملة للأجنبي أي باستيعابه كلياً.
التخطيط لعمليات التسميم السياسي:
إن تحليل عملية التسميم السياسي تتطلب التمييز بين مراحل ثلاث للتعامل بفرز أسلوب التخطيط لعمليات التسميم السياسي بأدواره المترابطة ضمن تقسيم تصاعدي يسمح بالانتقال من دور لآخر وهذه المراحل هي:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة التعامل مع أدوات حمل العدوى الفكرية أي التوجه في التعامل إلى كل من لا يشعر بالتجاوب مع المجتمع القومي بغرض استعماله أداة لتحقيق أهداف (التسميم السياسي) ثم تأتي عمليات التخريب وقتل القادة واختلاق الخيانات لتكمل وتساند العملية الأولى بهدف خلق عدم الثقة في الذات القومية.
المرحلة الثانية: وتتركز بتطويع الطبقات المختارة والمثقفة التي تمثل عناصر المقاومة في الجسد السياسي، والمفاصل المتحكمة في هذا الجسد بهدف إضعافها، وذلك عبر مسالك وأدوات عديدة منها، الدعوة العقائدية والحرب الأديولوجية، وحرب المعلومات، وتطويع الطابع القومي.
المرحلة الأخيرة: وهي مرحلة الإغراق الجماهيري بمعنى الصراع المباشر على المستوى الجماهيري، إذ تبرز الأداة الدعائية أداة مباشرة في التعامل وفي هذه المرحلة يوسع نطاق القيم التي تزرعها الجهة القائمة بعملية التسميم السياسي إذ تبدأ القيم التقليدية القومية في الوقت نفسه بالانحسار لتحل الأولى محلها مرتفعة إلى مستوى القيم الأساسية.
خلاصة القول وجب علينا كعاملين في وسائل الاعلام وكل من يملك تأثيراً فعالاً في المجتمع زيادة بث الوعي للحد من عمليات التسميم السياسي والاعلامي والتصدي للأفكار الدخيلة حتى لا تصبح سلوكاً يعده البعض امراً طبيعياً ويمارسونه بشكل عام، وتوضيح خطئها وخطرها، للمحافظة على الثوابت التي تربينا عليها وحفظ الهوية الوطنية من الخلخلة لأنها تمثل أساس استقرار المجتمعات وتقدمها ورقيها.