نوفمبر 12, 2024

اسم الكاتب : جميل عودة ابراهيم

مازال العراقيون يشتكون من سوء الأوضاع في بلدهم! فلا زراعة، ولا صناعة، ولا تجارة، ولا سياحة… ولا الحد الأدنى من الخدمات العامة الأساس، مثل: خدمة الكهرباء، وخدمة الغاز، وخدمة المياه الصالحة للشرب، وخدمة تصريف المياه الثقيلة، وخدمة المواصلات المريحة، وخدمة الطرق المعبدة، وخدمة البيئة النظيفة…

ويشتكي العراقيون من سوء نظام التربية والتعليم، ومن سوء نظام الصحة والبيئة، ومن سوء نظام التخطيط والعمران، ومن سوء توفير السكن الملائم للملايين من السكان الفقراء ومحدودي الدخل، ومن سوء نظام التشغيل، وتوفير فرض العمل للشباب والشابات، لاسيما الآلاف من خريجي الجامعات والكليات والمعاهد…

ويشتكي العراقيون من سوء إدارة المؤسسات العمومية، سواء أكان مجلس النواب أم رئاسة الوزراء أم رئاسة الجمهورية أم السلطة القضائية، وسواء أكانت المؤسسات مدنية أم أمنية أم عسكرية، وسواء أكان الموظفون محليين أم اتحاديين. إذ تنتشر في هذه المؤسسات مظاهر الإدارة الفوضوية، والبطالة الظاهرة، واستغلال الوظيفة، والابتزاز، والرشوة، والفساد المالي، والتمييز بين المواطنين، واستحواذ الكثير من السياسيين والموظفين الحكوميين الكبار على أموال الدولة وأراضيها وعقاراتها، أفرادا كانوا أم أحزابا أم تيارات سياسية، أم كتل برلمانية…

ويشتكي العراقيون من مشكلات اجتماعية، بدأت تعصف بأبنائهم، بين الحين والآخر، مثل: مشكلة الانتحار، ومشكلة الخطف، ومشكلة تعاطي المخدرات، ومشكلة محلات اللهو والدعارة، والقمار وغسل الأموال، ومشكلة السحرة والمشعوذين، ومشكلة التسول والأطفال المتسولين…

ومازالت المشكلات تتفاقم، يوما بعد آخر، وتسوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، ولا يلمس الناس تحسنا ملحوظا، لا في زراعة، ولا في صناعة، ولا في تجارة، ولا في سياحة، ولا في تشغيل، ولا في تعليم، ولا في صحة، ولا في طرق، ولا في مواصلات… ومازال يعيش الناس في تيه، وهم يتساءلون دائما، والكل يسأل الكل، ما هي مشكلتنا الحقيقية؟ ولماذا أصبحنا عاجزين وأمسينا؟ وكيف وصلنا إلى طريق مسدود؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟ ومن يمكن أن يحل مشكلاتنا؟ وما هي الحلول لتلك المشكلات؟

يبدو أن هذه التساؤلات بحاجة على إجابات وافية، تكشف الأسباب الحقيقية وراء كل هذا التدهور الحاصل في العراق. فإذا كان في العراق أرض صالحة للزراعة، وأنهار وروافد وسدود؛ فماذا لا يزرع أهلها؟ وإذا كان في العراق ثروة ونفط ومعان ومواد أولية؛ فلماذا لا يصنع أهلها؟ وإذا كان في العراق معالم للسياحة، والآثار التاريخية، والأضرحة الدينية، والاهوار والجبال؛ فلماذا لا يعمل أهلها بالسياحة؟ وإذا كان في العراق مدارس ومعاهد وكليات كثيرة؛ فلماذا لا يستطيع شبابها أن يحصلوا على فرصة عمل؟ ولماذا التجأ شباب العراق إلى المخدرات والخمر واللهو والدعارة…؟ وإذا كان في العراق مستشفيات ومراكز صحية وأطباء حاذقون وعقول؛ فلماذا يذهب العراقيون للعلاج إلى خارج بلادهم؟

يقولون يوجد في العراق العديد من الوزارات والمؤسسات العمومية التي ينبغي أن تؤدي دورها بحسب المهمات الوظيفية المكلفة بها، فوزارة الزراعة فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن تنهض بالزراعة؟ ووزارة الصناعة والمعادن فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن تنهض بالصناعة؟ ووزارة التجارة فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن تنهض بالتجارة الداخلية والخارجية، وأن يتحول العراق إلى بلد مصدر؟

ووزارة السياحة فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع وزارة السياحة أن تنهض بالسياحة في العراق، وهي تجارة مربحة لكل الدول والشعوب الفقيرة إلا في العراق؟ ووزارة التعليم فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن تنهض بالتعليم، وتخرج طلابا مبدعين ومتميزين يستطيعون أن يعتمدوا على أنفسهم؟

ووزارة الصحة فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن توفر خدمات طبية وصحية وبيئة تليق بالعراقيين؟ ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية فيها إدارة وقوانين وأنظمة ولديها أموال؛ فلماذا لا تستطيع أن توفر فرص عمل للشباب والشابات، وأن تحفظ كرامة المرضى وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والمعاقين؟

وهكذا لدينا العديد من الوزارات والمؤسسات والقوانين والأموال؛ ولكن دائما النتائج مخيبة للآمال!! إننا نصرف من الأموال والجهود على هذه المؤسسات لو وجهناها إلى المواطنين مباشرة لحصلوا على بعض الحقوق، وعلى بعض الخدمات، وعلى بعض الكرامة…!

كانوا يقولون إن سبب تخلف العراق وفقره هو وجود أنظمة مستبدة وظالمة، تظلم الناس وتعذبهم وتقتلهم، وتنهب أموالهم وثروتهم، فاذا تخلص العراق من هذه الأنظمة الحاكمة الظالمة؛ نهض من كبوته، واستعاده نشاطه، وتحركت عجلته، حتى إذا شاء الله، وتخلص العراق من حكامه الظالمين، وآلت الرئاسة إلى المظلومين والمحرومين والمناضلين، وانتشرت الديمقراطية والحرية، وظن الناس أن الخير قادم، وأن الرفاهية على الأبواب، عمت الفوضى، واتسعت الفجوة بين أبناءه، ونال القوي من الضعيف، ونُهبت الثروة، وافتقر الشعب مجددا…

وكانوا يقولون إن سبب تخلف العراق وفقره هو النظام المركزي المقيت، فالعاصمة هي الحاكم المطلق، إن شاءت أعطت وزادت في العطاء، وإن شاءت حرمت وأمعنت في الحرمان، وخططها فاشلة، ومعرفتها محدودة، فلو انتقلنا من النظام المركزي إلى النظام اللامركزي، ومنحنا السلطة والأموال لأبناء المحافظات الأخرى، لانتعشت المحافظات، وعمت مدنها الرفاهية، حتى إذا شُرعت القوانين، وصُدرت التعليمات، واُنتخبت المجالس، وتأسست السلطات المحلية، تردت أوضاع المحافظات مرة أخرى، وقلت خدماتها، فنادى المنادي هناك: بالله عليكم أعيدوا الصلاحيات إلى العاصمة، فإدارتنا المحلية أصبحت فاشلة، وأموالنا أضحت منهوبة، وخدماتنا أمست معدومة…. وضاع الحابل بالنابل!

وكانوا يقولون إن سبب تخلف العراق وفقره، هو وجود تدخلات أجنبية، وقوات محتلة، دخلت العراق على حين غره، لأجل نهب ثروته النفطية، والتحكم بمصيره، ورهنه لأجندتها، وما لم نتخلص من المحتل وأذنابه، وما لم نتخلص من الإرهابيين وداعميهم، لن يستقر العراق، ولن يتقدم العراق، ولن يتنعم شعبه بثروته… حتى إذا بذلنا الغالي والنفيس، وقربنا الضحايا الكبار من شبابنا، وفلذات أكبادنا، واستبشرنا بالمستقبل، حيث لا محتل يجول ويصول، ولا إرهابي يخيف الناس ويقتل، وقلنا على بركة الله، تعطلت حركتنا مرة أخرى، وتأخرت مسيرتنا، وساد الصمت بيننا مذهولين …

وكانوا يقولون إن سبب تخلف العراق وفقره، هو أن الأحزاب السياسية استحوذت على الوزارات، وحولتها إلى مقاطعات ومشروعات تدر الربح لها ولزعمائها، فكل وزير يأتي فارغا لمبنى الوزارة، ويخرج منها، ومن معه محملا بالذهب والفضة، والحسابات المصرفية… حتى إذا تعالت الأصوات، ونُصب الاختصاصيون مما يعرفون بالتكنوقراط، واطمأن الناس على وزاراتهم، وقالوا يا الله، صدموا أن وزراء التكنوقراط لم يستطيعوا أن يحركوا ساكنا، ولم يغيروا أداء وزاراتهم، قائلين إن التركة في الوزارات كانت ثقيلة جدا، وهي لا تحل، لا في سنة، ولا في أثنين ولا …. فظل الناس مندهشين…

وكانوا يقولون إن سبب تخلف العراق وفقره إن الدولة لا تشجع القطاع الخاص، ولا توفر له الأموال، ولا تسهل له الاستثمار، ولا تسمح بالتنمية المجتمعية، فُسنت قوانين الاستثمار، ومُنحت القروض بلا فوائد، ودُعمت المشروعات الصغيرة، وتأسست المصارف الخاصة، وبُنيت الجامعات الأهلية والمعاهد، ودخل الطلاب أفواجا بعد أفواج، ولكن النتائج كادت أن تكون صفرا، فقوانين الاستثمار لا تنفذ، والمشروعات الصغيرة التي منحت لها القروض اختفت، والطلاب أضحوا بلا عمل، وضاعت مليارات الدولارات في طرق ملتوية، وأنفاق مظلمة، لا نعرف لها أول ولا آخر…

قد يقول قائل إن المشكلة عندنا في عدم وجود مؤسسات عمومية مختصة، ولكن في الواقع يوجد مؤسسات عمومية مختصة. وقد يقول قائل إن المشكلة في قلة الموظفين والملاكات المتميزة، ولكن في الواقع لدينا فائض من الموظفين في كل وزارة يزيد على 70%. وقد يقول قائل إن المشكلة في القوانين والأنظمة، ولكن في الواقع لدينا الآلاف من القوانين والأنظمة والتعليمات، حتى أن ما يزيد على نصف التشريعات معطلة لا يعمل بها.

وقد يقول قائل لدينا نقص في الأموال، ولكن في الواقع مازالت تهدر ملايين الدولارات هنا وهناك دون أن نحصل على مردوداتها، كما أن لدينا مصادر للثروة في المنافذ الحدودية والموانئ ما يوازي ثروتنا النفطية. وقد يقول قائل إن الفساد المالي والإداري هو السبب الرئيس، ولكن في الواقع ضربت بعض مواطن الفساد، وحد منه إلى حد ما، ولكن لم يحدث تحسن لا في زراعة، ولا في صناعة، ولا في سياحة، ولا في تعليم، ولا في سكن، ولا في تشغيل، ولا في طرق، ولا في الخدمة العمومية!

اذن أين المشكلة؟

المشكلة تكمن في كل ما يسمى بـ (مؤسسة حكومية) نفسها، أكانت اتحادية أم محلية، أكانت خدمية أم غير خدمية، لأن جميع المؤسسات الحكومية أضحت مؤسسات مريضة وموبوءة، والوباء هو كُلُّ مرضٍ شديد العدوى، سريع الانتشار من مكان إلى مكان، يصيب الإنسان والحيوان والنّبات، وعادة ما يكون قاتلاً كالطّاعون، وعلى المستويات الوظيفية كافة، على مستوى الإدارة، وعلى مستوى الموظفين، وعلى مستوى القوانين، وعلى مستوى الإجراءات، وعلى مستوى الأموال والتخصيصات، وعلى مستوى التنفيذ، وكل من يقترب منها أو يدخلها أو يكون جزء منها تصبه العدوى عاجلا أم آجلا.

إن المشكلة في كثرة المؤسسات الحكومية لا في قلتها، والمشكلة في زيادة الموظفين الحكوميين لا في نقصهم، والمشكلة في القوانين الناظمة لنشاطاتها إلا في حاجتها إلى قوانين، والمشكلة في تطبيق القوانين لا في تشريعها، والمشكلة في كثرة أموالها إلا في عوزها المالي… والمشكلة لا في وجود الفاسدين بل في المنظومة الحكومية التي يحتمون بها.

والمحصلة النهائية مما تقدم هي إن المؤسسات الحكومية في العراق عاجزة تاما عن تنمية الزراعة والصناعة والتجارة الداخلية، وعاجزة عن توفير التربية والتعليم المطور لمهارات الطلاب، وتوفير التشغيل لهم، وعاجزة عن تأمين الصحة والبيئة النظيفة، وعاجزة تقديم خدمات الحد الأدنى للمواطن، ولن تتمكن من تقديم خدمات الحد الأدنى للمواطن مع كثرة موظفيها، وزيادة تخصيصاتها المالية، ولا ينبغي التعويل عليها كثيرا… والدعوة إلى إصلاحها وترميمها من أجل النهوض بها هي دعوة لا تغني ولا تسمن من الجوع، وهي حلم لا أظنه يتحقق، وهي ضياع للوقت والأموال… وهي دعوة للاستمرار في زيادة معاناة الشعب …

ما هو الحل؟ وكيف؟

يكمن الحل الاستراتيجي في نقل الزراعة والصناعة والتجارة الداخلية، والتعليم والصحة والبيئة، والسكن والتشغيل، والطرق والمواصلات، وخدمات الكهرباء والماء والصرف الصحي من حيز المؤسسة الحكومية إلى حيز غير حكومي، على المستويين الإدارة والتنفيذ مع الاحتفاظ بالإشراف العام المحدود جدا لمصلحة المواطنين.

والمقصود بالحيز غير الحكومي، إما تسليم الشركات الأجنبية الحكومية كالشركات الكورية والصينة والماليزية واليابانية والفرنسية والأمريكية وغيرها من الشركات الرصينة مسؤولية إنشاء وإدارة المشروعات في المجالات المتعددة لسنوات متفق عليها مع تعليم وتدريب وتأهيل كوادر عراقية ضمن شروط محددة. وهناك الكثير من التجارب في العراق، مثل تجربة الشركات النفطية أو شركات التعدين أو شركات السكن، أو شركات الطرق، وفي دول متعددة كدول الخليج كانت تجارب ناجحة، وحققت خدمات كثيرة، وأرباح كبيرة.

فعلى سبيل المثال لدينا مشكلة في الطرق الخارجية، فنعطي الطرق الخارجية كلها أو بعضها إلى شركات صينية، وهي تقوم بترميمها أو إنشاء طرق جديدة، وإدارتها لسنوات عدة بالطريقة الصينية، ولدينا مشكلة في السكن، فنعطي قطاع السكن إلى الشركات الكورية على غرار مجمع بسماية في بغداد، وهي تقوم بإدارتها على وفق النظام الكوري لسنوات عدة. ولدينا مشكلة في التشغيل وفرص العمل، فنعطي التشغيل للشركات الأجنبية المتخصصة، وهكذا.

واما تسليم المشروعات الحكومية في المجالات المتعددة إلى القطاعات الخاصة، على نحو كلي أو جزئي، فهناك أيضا تجارب ناجحة مثل تجربة تسليم الاتصالات إلى شركات القطاع الخاص مع ما فيها من ملحوظات، ولكن هي قدمت خدمات جيدة للمواطن، ومثل تبني العتبات كالعتبة الحسينة والعباسية في كربلاء المقدسة، والعتبة العلوية في النجف الشرف والعتبة الكاظمية في بغداد بعض لمشروعات الزراعية والتجارية والصناعية التي نالت رضا العراقيين إلى حد كبير، ووفرت لهم نحو 100 ألف فرصة عمل.

ويمكن أن تنجز مهمة نقل هذه القطاعات من المؤسسات الحكومية إلى المؤسسات غير الحكومية الأجنبية أو المحلية إذا ما توفرت الآليات الآتية:

1- أن يأخذ بالإجماع قرار سياسي من لدى المؤسسة التشريعية والتنفيذية بالاشتراك مع المؤسسات السياسية والمجتمعية والدينية على تقليص دور المؤسسات الحكومية، وتوسيع عمل المؤسسات غير الحكومية الأجنبية والمحلية.

2- أن يصدر قانون واحد لا أكثر، يسمع بنقل المجالات المذكورة من القطاع الحكومي إلى القطاع غير الحكومي، ويحدد دور المؤسسات الحكومية بالإشراف العام المحدود، ويلغي جميع القوانين المعطلة للتنمية من خارج المؤسسة الحكومية.

3- إجراء عمليات نقل منظمة ومدروسة لجميع موظفي الدولة من الوزارات والشركات العامة إلى المؤسسات والشركات المتفق معها على أن يحظى الموظفون في القطاع غير الحكومي بالامتيازات والحقوق التي يحصل عليها الموظفون الحكوميون بل أفضل منها، سواء على مستوى الراتب الكلي، أو المنح والامتيازات المالية، أو التقاعد وغيره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *