نوفمبر 14, 2024
download

اسم الكاتب :  هاني عبيد زباري


شهد مجتمع العراق الحديث والمعاصر الكثير من العادات والتقاليد التي نظمت سلوك الأفراد والجماعات. وأصبحت مبنوذة اجتماعياً، وأغلب تلك التقاليد وأعقدها وأكثرها بقاءً، تلك التي تحولت إلى ممارسات (طقسية) لها نظامها الخاص بها. ومن الملاحظ ان مجتمعنا، أو مجتمعاتنا العربية قبل الإسلام، كانت تنظمها بعض تلك الطقوس والأعراف. لكنها كانت أيضاً تشوبها أجواء من الصخب والعبث، ربما يرجع بالأساس، إلى التكوين الفطري للإنسان.
والمعروف أن من أهداف رسالة الإسلام تخليص المجتمع العربي من وحشيته و نزوعه في سلوكه الفردي أو الاجتماعي إلى الصخب و الانفلات، يظهر ذلك في وصف القرآن مراسيم الحج عند الجاهليين وصفاً سلبيا إذ يقول (و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) ووعدهم بالعذاب نتيجة ذلك السلوك. و في مناسبة اخرى ذكر القرآن الكريم أيضاً وصايا لقمان عليه السلام لابنه (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). وهناك المئات من آيات التأديب و المئات من الأحاديث التي تحض الإنسان على تهذيب سلوكه وتشذيب أفعاله. ونحن امة أُكرمنا بمناهج وطرائق التربية الكفيلة بأن تجعلنا خير أمة أخرجت للناس.
نستطيع القول ان مجتمعنا اليوم تحكمه ذهنية الهوسة في كثير من جوانب الحياة اليومية. ومفردة (الهوسة) في اللهجة العراقية الدارجة لها كثير من الدلالات ولكن يمكن حصر تلك الدلالات في معنيين أساسيين: أولهما الهوسة بمعنى الصخب و الصوت المرتفع, و الحركة الانفعالية و صعوبة فهم اهداف ومقاصد الصوت والحركة. و المعنى الآخر هو الذي قدمه لنا العرف العشائري من كلمة هوسة والتي (تقام في مناسبات الفرح والحزن، يبتدئها ‘المهوال أو المهوسجي’ الذي يقوم بإلقاء أبيات حماسية باللهجة العامية العراقية ويختمها بتكرار الكلمات الأخيرة ومن ثَمّ يرفع صوته ويقفز ويضرب على الأرض بقدمه بقوة ويقوم الناس من حوله ويتفاعل معها الرجال المتواجدون فيما يسمونه (الميدان) ويدبكون ويضربون الأرض بأقدامهم وترتفع أصواتهم). وبعد قول الهوسة يتحول المشهد إلى هوسة.
وفي كلتا الحالتين المعنى واحد. وهو الصخب و الصراخ والحركة فضلاً عن اطلاق العيارات النارية بكافة الاسلحة! وكلها أفعال لا يُعرف هدفها أو المغزى منها. وعلى الرغم من كل ما ذكرت، حاولت – جاهدا- معرفة اصولها ومن اين جاءت ومتى ظهرت (فن الهوسة) و(اطلاق العيارات النارية) في مناسبة العزاء؛ اذ لا تتوفر نصوص قديمة نستدل من خلالها على تحديد تاريخ نشأتها الحقيقية؛ لذا نجدها عبثية أو أنها لا تخضع لأي عرف أو نظام. لكنها تقدّم لنا مثالاً واضحاً عن كيفية تحول مشهد ما، من الهدوء والاستقرار إلى الهوسة.
ولابد من الاشارة إلى أن ذهنية الهوسة لا تتجلى في الكلام و السلوك فقط. بل في ترتيب حياتنا أيضاً. ولأننا ورثنا ذهنية الهوسة من آبائنا و أجدادنا, كنا نتعامل مع أشيائنا وما يحيط بنا على وفق ذهنية الهوسة. أذكر في صغرنا وكنا نعيش في منطقة شعبية، كان أحد أصدقائنا يملك دراجة هوائية جديدة (بايسكل)، مستوردة من اليابان ولكنه لم يرض بها! فوضع لها أشرطة وأجراسا, ومصابيح، و (راديو)، و(كراكيش) و(دناديش)، حتى صار وزن الاضافات (الإكسسوارآت) أثقل من الدراجة ذاتها. وهذا السلوك لم يكن سلوكاً متصلاً بالشخص ذاته. بل كان سلوك الكثيرين ممن يمتلكون الدراجات الهوائية أو أشياء أخرى. ومثله نجد هذه الهوسة في معظم بيوتنا؛ إذ كانت غرفة الاستقبال أو الغرف الاخرى تُملأ بالصور المعلقة على الجدران بشكل عشوائي؛ فالعوائل الملتزمة، دينياً، كانت تضع صور النبي والأئمة والأضرحة والعلماء من جميع الأحجام: كبيرة وصغيرة ومتوسطة، موزعة بطريقة ارتجالية على جدران الغرفة، ومثبتة بوسائل لا تُعد ولا تُحصى: بعضها بالمسامير بعضها بشريط اللاصق الورقي وبعضها ببقايا أعواد البخور. وكانت هناك، وربما ما زالت، ظاهرة، تزيين السيارات على أنواعها من الداخل أو الخارج؛ فقد تجد في سيارة نقل واحدة، صورا لعلماء أو شخصيات دينية، ولمطربين، أو مطربات، أو ممثلين أو لاعبي كرة القدم، أو شخصيات مشهورة، في خلطة لا يمكن أن تجد لها منطقاً.
ولم تبقَ الهوسة في داخل بيوتنا بل انتقلت إلى خارجها، فتجد في كثير من المناطق، أن الناس لديهم فوبيا الازمات (تجميع الأغراض)، أو ما يطلق عليها(السكراب)؛ إذ يحتفظون بأية مخلفات أو مواد تالفة في بيوتهم، أو امام أبواب بيوتهم؛ لانهم يتوقعون أنهم سيحتاجون إليها في يوم ما، و حينها لن يجدوها، أو سيصعب عليهم شراؤها. فتجد (ماطورات) الماء، أو (راديتر) السيارة القديم، والمراوح الهوائية (البنكات)، والإطارات القديمة والصناديق و البراغي و قطع الخشب و أشياء قد لا تخطر على بال أحد، كلها مكومة أو مخزونة أو مرمية في البيت أو أمامه أو حوله، محولةً البيت، و ما يحيط به من حياة إلى هوسة صغيرة, أو ربما كبيرة بحسب المواد المتوفرة.
نستطيع القول إن ذهنية الهوسة قد حرمتنا من الاستماع إلى بعضنا البعض؛ لأن الهوسة تتطلب أن يكون صوتك اعلى من الاخرين، وهذه الذهنية انعكست سلباً على حياتنا بشكل عام، لاسيما حرمتنا من الاستمتاع بالطبيعة والمحافظة على بيئتنا. وافقرتنا إلى معرفة قيمة النظام والهدوء والتأمل. ولم يقتصر تأثيرها السيء في الحياة اليومية، بل تعداه إلى لجانب السياسي؛ إذ مجدت الهوسة في أغلب الأحيان أصحاب المناصب والأموال، وحرمتنا من أن نوصل الرجل المناسب إلى المكان المناسب.. ولم نعد نميّز ما ينفعنا عمّا يضرنا.
لقد جعلنا حياتنا هوسة و اشتركنا في أكبر استعراض للهوسة في التاريخ، ولا ندري متى نتوقف لنتأمل إلى أين وصلنا؟ وماذا نريد في الخطوة التالية؟ وهل يبقى الميدان فقط للهوسة و(المهوسچية) أم سيُتاح المجال للصوت العاقل والهادئ، وللعمل المنظم الذي ينفع حياتنا، وينشّط عقولنا ويحكّمها في الحياة والأشخاص؟ الهوسة و النظام ضرتان لا تجتمعان. و المجتمع الذي يتمسك بالهوسة لن يعرف النظام قطّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *