اسم الكاتب : إحسان محمد جواد التميمي
تسعى هذه القراءة إلى الكشف عن ظاهرة استشرت في جملة من البلدان كان في طليعتها العراق بعد عام 2003م، وهي العنف الطائفي الناتج عن التحولات السياسية في العراق وظهور الإسلام السياسي بوصفه بديلاً عن السلطة الديكتاتورية الشمولية ذات الرؤية الخيطية الواحدة، وهي حالة عرضية آنية اخترقت حالة السلم والتواصل لسنوات طويلة في بلد يعد مهداً لحضارات متراكبة، وهذا التراكب الحضاري أسهم – على نحو مباشر أو غير مباشر- في خلق الوعي الجمعي المتكافل ضمنياً على المستوى الاجتماعي فضلاً عن إسهامه في خلق مجتمع معقد نسبياً وذي عقلية جدلية مدهشة لاتؤمن-كثيراً- بالمسلمات التي تضعها أية سلطة. ولو استقرأنا تاريخ العراق لوجدنا أن العنف الطائفي فيه لم يكن مصدره الخلافات العقيدية في المجتمع، وإنما كان عنفاً سياسياً يتخذ من الطائفة لبوساً له.ولعل أبرز طائفتين في العالم الإسلامي لايمكن تجاوزهما هما :الطائفة الشيعية والطائفة السنية، ولو رجعنا إلى أصول هاتين اللفظتين لوجدنا دلالتيهما متقاربة، فكلاهما يدلان على النهج والطريقة والاتباع، ولكن الاختلاف يكمن في المدلول أي في المتبوع، فالشيعة يرون أن الخلافة بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تتجلى في شخص الإمام علي(عليه السلام) وهو منصب إلهي غير قابل للمعارضة ولديهم أدلتهم في ذلك. أما السنة فيرون أن الخلافة بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تتم بالاستناد إلى إجماع أهل الحل والعقد ولهم أدلتهم في ذلك ( ينظر:كتاب المواقف للأيجي 756هـ: ج8 / 352، 353 )، مع مصادقة قسم منهم على حديث:حديث الملك العضوض ومفاده: (( قد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين – يعني عمر – بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه.)) (رواه أحمد في مسنده: 4/273).
وهو حديث يضعفه كثير من علماء السنة. ولا يقتصر الخلاف العقائدي بين السنة والشيعة على موضوع الخلافة بل يتعداه إلى المباحث الكلامية الأُخرى كعصمة الأنبياء (عليهم السلام) والصفات الإلهية والعرش القضاء والقدر وغيرها من المسائل الكلامية.( ينظر: فلسفات إسلامية: 372 ).
وبصرف النظر عن تاريخ ظهور التشيع أو السنة بوصفهما طائفتين لهما ثقلهما في العالم الإسلامي، بقيت خيوط الخلاف بينهما تابعة للسياسات الحاكمة بين مدٍّ وجزر بحسب التحولات السياسية وحاكمية السلطة، أما على الصعيد الإنساني (الاجتماعي) فنلحظ التعايش السلمي والتسامح حاضرين.لاسيما في العراق ودول الشرق الأوسط التي تنطوي على هذين الطيفين ليس على مستوى العامة من الناس فحسب وإنما ظهرت- منذ أربع مائة عام- دعوات للتقريب والتسامح من لدن رجال دين معروفين من كلا الطيفين الكبيرين كما هي الحال عند زين الدين بن علي العاملي الملقب بالشهيد الثاني (ت 966ه) الذي أمضى حياته متنقلا بين المدن (دمشق ، القسطنطينية، القاهرة) لطلب العلم والمعارف المختلفة إلى أن درس على كبار المذاهب الأربعة في الأزهر وأخذ عنهم فقه المذاهب والأصول والتفسير والمنطق والهندسة والحساب وعلم الفلك وعلم الكلام والتجويد وعلم الحديث، وكانت ضالته تحصيل المعرفة ولم يكن يبالي بأن يأخذ العلم من مسلم شيعي أو سني ، من الكافي أو من صحيح البخاري (ينظر: مع علماء النجف الأشرف : 44) حتى رجع إلى بعلبك فدرَّس الفقه على المذاهب الخمسة وانقادت اليه الناس ورجع إليه العلماء والفضلاء وصار المفتي والمرجع الأول لجميع المذاهب الإسلامية. إنّ خطوات العاملي تعطينا صورة ناصعة بأن لا مناهضة بين مذهب ومذهب من المذاهب الإسلامية، وإن التفرقة والتباعد جاء من رجال المذاهب لا من المذاهب نفسها، وقد عمل الشهيد العاملي والمخلصون على اقصاء الجهل والمهاترات عن الاسلام ومذاهبه ، وبثو روح الأخوة والتسامح وروح السلم بين المسلمين وبين سائر الطوائف ( ينظر: مع علماء النجف الأشرف: 45.) والسؤال المطروح ضمناً لم انهارت هذه الوشائج بين الطوائف الإسلامية في الزمن المعاصر الأقرب إلى الديمقراطية والتسامح والتعايش السلمي بعد هذا التراكب الثقافي من الخبرات والتجارب ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من التفريق بين إسلامين معاصرين هما الإسلام الأصيل الذي يؤكد على حرية الاعتقاد ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) (سورة البقرة /256 )، والإسلام المزعوم الذي يؤكد على المعطيات النفعية في السلوك الجمعي وإن كان على حساب المعطيات الإنسانية والأخلاقية وهو لا يعيش ولا يستمر في مناخات السلم والتعايش بل إن النسغ المغذي لديمومته وانتعاشه هو التطرف والإرهاب والعنف ويأتي ذلك بعد تبنيه للأفكار الأصولية ذات المنحى الإقصائي، وفي خضم هذا المعترك برزت عدة أصوليات تنطلق من راديكاليات جزئية جامدة، وهي تقوم على معتقد ديني أو سياسي سوف نعرض لها تمهيدا لبيان طبيعة الإشكالية التي تهيمن على خطاب الإسلام السياسي.
الفوضى الخلاقة والعنف الطائفي:
أسهمت الفوضى الخلاقة التي طرحتها كوندليزا رايز بوصفها اكسيرا ناجعا للحالة العراقية بعد الاحتلال؛ بخلق نوع من الزعزعة المقصودة بأمن العراق ولهذا المصطلح السياسي جذوره المأخوذة من الحالة الفرنسية بعد ثورة الباستيل المعروفة، إذ تطّلبَ التحول فيها من النظام الارستقراطي إلى النظام الديمقراطي المرور بمرحلة الوسيط المتلاشي وهذا ما حدث في العراق، و(تمثل الاطروحة الرئيسة لنظرية الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في العالم العربي ـ مثلا ـ عائقا أساسيا أمام تقدم المصالح الامريكية في المنطقة التي تمتاز ـ بحسب النظرية ـ بأنها عقائدية وغنية بالنفط مما يشكل تهديداًمباشرا للمصالح الامريكية وينادي أصحاب هذه النظرية باستعمال القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان والعراق .وتبني سياسة التهديد بالقوة لاجبار الانظمة على تبني الديمقراطية.إذ تفترض هذه النظرية في الاساس اندلاع فوضى عارمة في منطقة ما تؤدي إلى تفكك نسيج النظام السياسي والاقتصادي بما يسمح للولايات المتحدة بالتدخل من أجل تصحيح الأوضاع في المنطقة أو ما يراه المحافظون الجدد دمقرطتها)، (ينظر: الفوضى الخلاقة ؛المعنى والتطبيق :د.عزيز جبر شيال :ثقافتنا،ع7).
وتمثل كتابات اليوت كوهين أحد المصادر المهمة لنظرية الفوضى الخلاقة وخصوصا كتابه :القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب، ويرى كوهين أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد بأن على الولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي. وينادي أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان والعراق، وتبني سياسة التهديد بالقوة التي تسهم في تفجير الأمن الداخلي للعالم العربي وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية وتوظيفها في خلق الفوضى كما هو الحال في التعامل مع الوضع اللبناني والسوري والعراقي(ينظر: نظرية الفوضى الخلاقة واستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي : حسن ابو هنية ، على الويب)
ويعد حل الجيش العراقي على يد بول بريمر من ضمن الخطوات التي أدت إلى انهيار الوضع الامني ، فضلا عن غض الطرف عن تأسيس قوى إسلامية سياسية وأحزاب طائفية قوامها الأصولية في الفكر والممارسة فضلا عن الجماعات المسلحة المدعومة من قوى اقليمية لزعزعة الأمن والاستقرار فيه وقد تمخض عن وجود هذه الجماعات المسلحة نشوب حرب أهلية طائفية أحرقت الأخضر واليابس ولاسيما بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين وهو معلم ديني وتراثي إنساني زيادة على أنه يعد رمزاً وعتبة مقدسة لإمامين مقدسين عند الشيعة ، وهي عملية تفجير منظمة حدثت في 22/فبراير/2006م واسهمت بالاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة عمت العراق ولاسيما في بغداد.
وقد استقرأت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، حصيلة الضحايا العراقيين المدنيين وغيرهم من الارهاب منذ بداية الإحتلال الأمريكي عام م2003 إلى عام 2016م، إذ ذكرت بعثة الأمم المتحدة (يونامي) أعداد الضحايا المدنيين على وفق الأعوام المذكورة ، وكما يأتي :
– 12 ألفا و133 ضحية سقطوا في 2003م
– 11 ألفاً و 736 ضحية في 2004م.
– 16 ألفاً و583 في 2005م
– 29 ألفاً و451 في 2006م.
– 26 الفاً و36 في 2007م.
-10 آلاف و271 في 2008م.
-خمسة الآف و373 في 2009م.
-أربعة آلاف و167 في 2010م.
-أربعة آلاف و153 في 2011م.
-أربعة آلاف و622 في 2012م.
-9 آلاف و851 في 2013م.
-20 ألفاً و169 في 2014م.
-17 ألفاً و502 في 2015م.
– 7 آلاف و954 شخصا في 2016م
، لتبلغ الحصيلة الاجمالية للقتلى منذ بداية الإحتلال الأمريكي 359549 قتيلا إلى نهاية عام 2016م.(ينظر: موقع يونامي على الويب http://www.uniraq.com ).
ولو نظرنا إلى تلك الاحصائيات نظرة فاحصة وموازنة لوجدنا أن أكثر حصيلة لضحايا العنف والارهاب هي في عام 2006م ، إذ بلغت 29 الفا و451 ضحية، وهو العام الذي حدث فيه العنف الطائفي بين الطائفتين السنية والشيعية.
آليات الاعلام العربي وخطاب التشويه
لعله من البديهي والمتفق عليه أن الاعلام على نحو عام يتكئ على ثلاثة بنود اساسية هي : الإخبار(بكسر الهمزة)والتثقيف، والترفيه. وهي بنود نضح بها الخطاب الإعلامي واعتمد عليها على مدى عقود مرت إلى وقتنا الراهن.ولكن الحقيقة أن ظاهر الخطاب ينطق بهذه البنود وينطوي في جوهره على بند آخر مختف وغامض وذي فاعلية خاصة وخطيرة في الآن نفسه لأنه يتداخل مع البنود الثلاثة وليس هذا فحسب وإنما يعد محركاً ومرتكزا رئيساً لها.إذ يكون فعله فعل المؤلف المسرحي الذي يتلاعب برؤى شخوصه وأفكارها وأشكالها المتصارعة على خشبة المسرح .وربما كانت تلك محض أفكار المؤلف وإيديولوجيته ومن هذا المنطلق تنبع مسألة خطورتها، لأنها تعتمد على الجانب الفني في تقديمها وقد تكون هذه الافكار مشوهة لكنها مقنعة ومتسترة بحجاب الذوق الفني بوصفه امتداداً للحياة أو هو محاكاة لبعض مفردات الحياة. ومن هنا يحق لنا أن نسم هذا البند الرابع ب((التشويه)) .ومن الجدير بالذكر أن عدد كبير من الإعلام العربي على نحو عام والإعلام الفضائي العربي على نحو خاص ، متمثلاً بالقنوات الاخبارية الفضائية، التي استساغت العمل بهذا البند وقد تدخلت الايدولوجيا في خطابها وأصبح ما يعرف بمصطلح ( الأجندة) السياسي واضحاً لكل ذي بصير والملاحظ على هذه القنوات أنها تدعي تحري الحقيقة اينما كانت ومهما كان الثمن ولكن هو خطاب ظاهري ارتأت أن تحتمي به لئلا يظهر للمتلقي ( المشاهد العربي) سوء النوايا وبذا قد يدعوها تحري الحقيقة الى خلق بطل اسطوري قومي وهمي تلطخت يده بدماء ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عراقي.وقد يدعوها تحري الحقيقة للسكوت عن ما يقرب من (260) مجزرة جماعية في جنوب العراق وشماله وتبثه في اغلب الاحيان على انه حدث تافه كما هي الحال في بثها خبر المقبرة الجماعية الالفية في الشنافية قرب الديوانية واعتمادها على آلية القطع والابتسار في اظهار المشهد الخبري كما حصل في مجزرة الحلة التي قام بها التكفيري الاردني البنا وراح ضحيتها ما يقرب من (125) عراقي وهو المشهد الاكثر دموية في العراق .والمضحك المبكي ان هذه الفضائيات قد جعلت من انباء ليست بتلك الاهمية والخطورة خبرا رئيسا كما حصل في يوم مجزرة الحلة حين قدمت خبر المظاهرات اللبنانية عليها. واتبعت الاسلوب نفسه في نهجها حين بثت حادث الانفجار الذي استهدف ثلة قليلة من السياح الاسرائيليين في القاهرة وعنونت الفضائية العربية الخبر ب(عارض ارهابي) ووقفت تلك الفضائية عنده طويلاً لتداري تعتيمها على المجزرة الالفية في ارض العراق التي لفظت رفات ما يقرب من (1500) جثة متناسية أن السكوت عن المجزرة بمثابة مجزرة اخرى.