اسم الكاتب : أرييل بتروفيتش / ترجمة : حسين قطايا
لقد أظهرت موسكو نضوجاً في تحمّل الألم الاقتصادي الذي فرضه الغرب بعد عمليتها في أوكرانيا، لكنّ روسيا تزدهر اليوم لا العكس.
مجلة “Responsible Statecraft” الأميركية تنشر مقالاً للكاتب أرييل بتروفيتش يتحدّث فيه عن فشل العقوبات الغربية على روسيا.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
تعتمد الولايات المتّحدة بشكل رئيسي مع حلفائها، على أداة العقوبات ضدّ روسيا، للحدّ من عملية الكرملين العسكرية في أوكرانيا. كذلك امتدّت العقوبات، لتشمل قادة وشركات ورجال أعمال بعد فرض قيود صارمة على القطاعات الرئيسية مثل النفط والغاز الطبيعي الروسي، بالإضافة إلى فرض تكاليف اقتصادية غير مقبولة تعيق على نحو مباشر المجهود الحربي الروسي، وتُحفّز موسكو لإنهاء حملتها العسكرية.
مع ذلك، يناقش الخبراء ما إذا كانت هذه الأداة تعمل بشكل جيّد وما مدى نجاحها، ويُجادل البعض بأنّ العقوبات الشاملة، وخاصّة القيود الواسعة النطاق المفروضة على عائدات النفط والغاز، ستجعل الاقتصاد الروسي يجثو على ركبتيه، ممّا يُؤدّي إلى إنهاء موسكو حملتها العسكرية. ويُقرّ آخرون بأنّها قد لا تنهي الحرب بنجاح فوراً، لكنّهم يُؤكّدون توفيرها على الأقلّ طريقة غير مُكلفة ومنخفضة المخاطر لإبطاء التقدّم الروسي واتّخاذ موقف علني ضدّ الغزو. وبعد ما يقرب من 3 سنوات، لا تزال الحرب مُستعرة، ولا يزال الاقتصاد الروسي مُنتعشاً، والدعم الشعبي المحلّي للرئيس فلاديمير بوتن والكرملين صعد إلى أعلى مستوياته إطلاقاً.
والمشكلة في هذه المناقشة الاقتصادية وحدها هي أنّها تتجاهل خطر العواقب الهدّامة. فلم يكفِ فشل العقوبات بإنهاء الحرب في أوكرانيا أو في إضعاف عملة الكرملين القتالية فحسب، بل إنّها تأتي بنتائج عكسية أيضاً، وتُعزّز عن غير قصد موقف موسكو، وتُقوّض فائدة الخيارات الاستراتيجية البديلة، ممّا يُفضي إلى نتيجة الموقف الذي يرى في العقوبات أفضل من لا شيء، يتجاهل على الأقلّ عواقبها الضارّة الطويلة الأجل على السلام الإقليمي والاستقرار الدولي.
حجج مؤيّدي العقوبات
لقد شملت العقوبات ضدّ روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، مُختلف القطاعات الاقتصادية والمعلوماتية، مُستهدفة الصادرات الصناعية والتكنولوجية والمصارف، حتّى إنّها حظرت وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ولم ينجُ من الاستهداف الأفراد والكيانات البارزة ولا حتّى الرئيس بوتين، والأهمّ العقوبات على جوهرة التاج أي النفط والغاز الروسي الذي يُمثّل 60% من صادرات البلاد ونحو 40% من ميزانيتها الاتّحادية.
مُنذ بداية الأزمة في العام 2022، ظهر أنّ روسيا مُستعدّة للرضوخ للعقوبات الغربية، بناء على حسابات حجمها الاقتصادي وتنوّع أسواقها وناتجها المحلّي الإجمالي وهو أقلّ من الربع بالقياس مع الولايات المتّحدة، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يحتلّ المرتبة 70 على الصعيد العالمي، ما سهّل آنذاك من تقدير العوامل الإيجابية للتنبؤ بحساسية العقوبات على روسيا، التي تعتمد إلى حدّ بعيد على عائدات تصدير النفط والغاز في العديد من وظائفها الحكومية، ممّا يضع اقتصادها الريعي، بمواجهة القوى التي تفرض العقوبات وتمتلك اقتصادات هائلة وأسواقاً مُستقرّة ومُتنوّعة وهي ضرورية لممارسة نفوذ سياسي كبير في الساحات العالمية.
المقاومة الاقتصادية الروسية
لكنّ انتظار روسيا بصبر لاستنفاد احتياطاتها لم ينجح كما كان يأمل مؤيّدو العقوبات. فموسكو، ليست مُتلقّية سلبية، فقد حمت أصولها، وبنت شبكات تجارية جديدة، وكسبت في النهاية من صادراتها النفطية في عام 2023 أكثر من عام 2021، ويُبرّر بعض النقّاد الأمر بأنّ العقوبات قد فشلت، لأنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها غير قادرين أو راغبين في فرض عقوبات شاملة بما فيه الكفاية. ويلقي آخرون باللوم على السياسات المالية المحلّية الذكية لموسكو. ولا يزال آخرون يلومون دول مجموعة “بريكس” على تقويض جهود العقوبات الغربية بشكل منهجي.
ولكن سواء عن طريق التخريب الخارجي أو مناعة موسكو المحلّية المتزايدة ضدّ العقوبات، أصبحت روسيا الآن أقل عرضة اقتصادياً لضغوط العقوبات، ممّا كانت عليه في عام 2022. فقد تضاعفت تدفّقاتُها التجارية مع الصين من 2021 إلى 2023 وزادت الصادرات إلى الهند 10 أضعاف. وبدلاً من الحدّ من المجهود الحربي، حفّزت العقوبات شراكة اقتصادية وسياسية مع الصين والهند وإيران وكوريا الشمالية، ممّا يُشير إلى إعادة هيكلة جيوسياسية مُثيرة للقلق. وهذا يعني أن هذه الشبكة المتنامية من الشركاء ستكون أكثر مقاومة للعقوبات اقتصاديّاً ومعادية للغرب سياسيّاً.
الموافقة العامّة
ومع ذلك، يُجادل مُؤيّدو العقوبات بأنّه، حتّى لو تمكّنت موسكو من حماية نخبها من التكاليف الاقتصادية، فإنّ الجمهور الروسي لا يزال يدفع الفاتورة، وسوف ينقلب في النهاية على قادته. لكنّ هذا المسار يبدو غير مُرجّح بالنفاذ على نحو مُتزايد. وفي حين تهدف العقوبات إلى تقويض الدعم الشعب لسياسات الحكومة الروسية تحت وجع العقوبات، فقد ردّ الجمهور الروسي على ذلك بالالتفاف أكثر مع حكومته، مُعزّزاً من الموقف السياسي الداخلي لبوتين وأنصاره. وحتّى قبل أن تبدأ مُؤشّرات الصحّة الاقتصادية في الارتداد، كانت مُعدّلات التأييد الشعبي لكلّ من الرئيس بوتين وحكومته بشكل عامّ قد تجاوزت بالفعل مستويات ما قبل الحرب.
تتحكّمُ موسكو بزمام الأمور في انتشار المعلومات محلّياً، ولديها تاريخ في استمالة المعلومات التي تأتي لمصلحتها السياسية الخاصّة. وقد استخدم القادة العقوبات لحشد الدعم الشعبي، وإعادة توظيفها لتغذية الروح الوطنية ومقاومة الضغوط الأجنبية من خلال السيطرة على السردية حول العقوبات والحرب. وكانت شعبية بوتين تدور حول 65% لمدّة عامين، لكنّها قفزت إلى أكثر من 80% بعد الحرب، واستمرّت بالارتفاع مُنذ تلك اللحظة.
كما أتت محاولات الغرب لمكافحة التضليل والدعاية بنتائج عكسية. وقد حاولت الشركات الخاصّة مثل “إكس” وغيرها، اتّخاذ إجراءات صارمة في عام 2022، وحظر الحسابات الرسمية الروسية وإزالة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي الكاذبة أو المضلّلة. وردّت موسكو بتمرير سلسلة من قوانين الرقابة وحظر “فيسبوك” و”إكس” كلّياً، وطردت موسكو أغلب وسائل الإعلام الغبية والمستقلة، وفرضت مُراقبة على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدّى فعليّاً إلى قطع وصول الجمهور الروسي إلى أيّ تقارير مستقلة عن الصراع.
الغرب لديه هدف واحد فقط هو كبح جماح تطوّر روسيا، لكنّ العقوبات والقيود ساهمت عن غير قصد بتقوية الموقف السياسي الداخلي للرئيس بوتن وأنصاره.
عواقب عكسية
وينبغي أن يُنظر إلى العقوبات إلى ما هو أبعد من التدابير الاقتصادية البسيطة للنظر في المخاطر الطويلة الأجل، ولا ينبعي اعتبارها مُجرّد وسيلة رخيصة وغير عنيفة للإشارة إلى رفض أمر ما مهما كان عديم الجدوى. فالتكاليف الاقتصادية ليست الجانب السلبي الوحيد. وكانت نتيجة العقوبات أنّ موسكو تتمتّع بحافز أكبر وقدرة أكبر على متابعة التوغّلات العسكرية في المستقبل، وتحوز بموافقة لا جدال فيها من جمهورها، ومقاومة اقتصادية لمواجهة القيود المستقبلية.
ونتيجة لذلك، في حين أنّ العقوبات قد تخدش رغبة واشنطن في مقاومة الغزو، إلّا أنّها تخلق في الواقع حوافز ضارّة تُقوّض المشاركة المستقبلية مع موسكو بشأن أوكرانيا والأمن الدولي على نطاق أوسع. لقد أظهرت موسكو نضوجاً في تحمّل الألم الاقتصادي الذي فرضه الغرب بعد غزوها لأوكرانيا، لكنّ روسيا تزدهر اليوم لا العكس.