للتعهدات آثار قانونية وأمنية مهمة في سياسة حزب البعث، اتبعها كجزء من سياق عمل في كل الدوائر الحكومية والحزبية، بل تعدى سياقه الطبيعي، وأخذ يطورها بعا لسياسة الحزب الأمنية، ومواقفه، والظروف الداخلية والخارجية التي مر بها؛ بسبب سياسته المتطرّفة مع جميع الأطراف. جاء هذا الاستعمال المخل بكل سياقاته المألوفة، ليكون وسيلة ضغط، وتهديد، ووعيد، وتخويف، وإرهاب، وتحذير، وملاحقة، ومراقبة، ولاسيما عندما يكون في محل يخترق به كل القوانين الدستورية الضامنة لكرامة الإنسان، وحياته، وحرياته، وتجاوز لكل الاعتبارات الإجتماعية والعرفية والوجدانية. فيطلب من المواطنين الذين يسجل عليهم مؤشر ما أن يكتب تعهداً خطياً كتابياً وإلزامياً في تقييد حريتهم، والتعبير عن مشاعرهم، ووجدانياتهم، وأحزانهم، وأفكارهم، وعقائدهم، وأن يلزموا أنفسهم على الطريقة التي تريدها الجهة الطالبة للتعهد أن يكون عليها! وكأنما يطلب منك أن تكون مثلهم، ولكن ضمن سياق الإلزام التعهدي الخطي. فقد تكون طبيعة التعهدات ضمن سياق إداري وقانوني مسموح، ولكن واقع الحال يكون غير طبيعي عندما يكون أداة للضغط النفسي، واللعب بالأعصاب، والترهيب النفسي، والقلق المستمر الذي ينتاب من قدم تعهدا؛ نتيجة الإملاء الإلزامي لهذا التعهد؛ هذا من جهة، ومن جهة المخاطر المحدقة والمتوقعة لما بعد التعهد.
وذلك لأن طلب التعهد الأمني يعني قد فتح لكل متعهد سجل أمني في الدائرة التي طلبت التعهد، ومن خلال الوثائق التي أطلعنا على بعضها أظهرت أن هناك جهات متعددة لها حق طلب التعهد الأمني من المواطن المشتبه به أمنياً، أو المخالف للتوجيهات العليا الصادرة من رأس السلطة، مثل: الفرق الحزبية، ودوائر الاستخبارات، ودوائر الأمن، ومراكز الشرطة. وقد يكون لكل منهم موضوع مختلف في طلب التعهد من المواطنين، إلا أن البعد الأمني، وفي مناسبات محددة، تتوحد جهود هذه الدوائر في صيغة التعهد وموضوعه ومناسبته.
من أكثر المناسبات المخيفة للحزب والأمن الصدامي هو شهري محرم في العاشر منه، حيث تاريخ مقتل الحسين عليه السلام، وشهر صفر خاصة في العشرين منه، حيث تاريخ زيارة الأربعين، وهي تاريخ أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، لهذه المناسبة يستنفر الحزب عناصره الأمنية في كل مفاصل سلطته , وتبدأ المخاطبات بالتشدد على تنفيذ القرارات، والتعليمات، والتوجيهات لهذه المناسبة وبحق من يُحيها!
فطلب التعهد الأمني كما موضح نموذجه في الوثيقة ادناه من بعض المواطنين لعدم إحياء هذه المناسبة , أمر يستحق الوقوف عنده بتعجب؛ لأن كثيراً من المواطنين الشيعة في العراق تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، والاعتقال، والتحقيق، والحبس، والسجن، والإعدام، والإخفاء القسري، والاعتراض، والقمع الميداني، بسبب مشاركة المواطنين في إحياء هذه المناسبة، سواء كان عبر المشي، أو إقامة العزاء، أو الطبخ للثواب، أو المشاركة في مجالس اللطم، علنية أو سرية.
فلماذا يطلب من بعضهم تعهد والبعض الآخر يعتقل ويسجن … وغير ذلك، هذا يوضح أن طلب التعهد الأمني ليس سياق عمل ثابت، بل يكون له حيثيات شخصية، وأمنية مشددة مرة، ومخففة مرة أخرى، تبعا للظروف والمواقف والمخاطر التي يستشعرها البعث على نظامه.
فكتابة تعهد أمني يعد أمراً هيناً عند كثيرين، قياساً مع ما يمر به من يُعتقل أو يُسجن، على الرغم من كل الظروف النفسية التي يمر بها كاتب التعهد، وهو يدرك حجم المخاطر من فتح سجل أمني له في سلطة النظام، وهو بوابة لا تغلق بسهولة؛ نتيجة كثرة المراقبات، والتحقيقات المستمرة، والاستدعاء، والاعتقالات المستمرة. وبعض المتعهدين لا يشكلون أي خطورة على الحزب ونظامه، ولكن سياسة التعهدات تُتبع من قبل عناصر الأمن وسيلة للتعذيب النفسي، والابتزاز، والإخافة، ولتقييد الحركة، ومنع المواطنين من مزاولة أغلب نشاطاتهم، وربما بعضهم لا يعاود أبدا القيام بالعمل نفسه الذي تعهد بسببه. فضلاً عن طبيعة المخاوف التي تنتاب العائلة، والأهل من جراء هذا التعهد الإلزامي على أمر حساس، مثل زيارة العتبات المقدسة، أو عدم إعلان الحزن على الحسين (عليه السلام)، وأهل البيت (عليهم السلام) في مناسباتهم الحزينة . فقد مثل للمؤمنين تحداً كبيراً، وهم يلزموهن ليتعهدوا على عدم ممارسة شعائرهم، وطقوسهم الحسينية التي اعتادوا عليها فطريا، فإملاء هذا التعهد، وخطه يعد تجاوزا على معتقدهم؛ لذلك كثير منهم يمتنع عن التعهد، وبعضهم يتعهد، ولكن لا يلتزم به؛ لأن هذا التعهد هو تحدٍ صارخ لالتزامه العقائدي الإيماني بالقضية الحسينية، ويمثل بالنسبة لهم في الوقت نفسه بمثابة طاعة للنظام، وإرادته في منع هذه الطقوس. ولم يتضح من الوثائق التي أطلعنا عليها عدد مرات التعهد، و هل النظام يطلب أكثر من تعهد من المواطنين، أم أنه يكتفي بتعهد واحد، قبل تصعيد الإجراءات العقابية المترتبة على التعهد؟ وأن في كل تعهد ولاسيما تعهدهم الأمني تذكر عبارة: (وبخلاف ذلك يتحمل كافة التبعات القانونية وعليه وقعت). ولا نعلم أي إجراءات قانونية تتبع لتعهد غير قانوني؟! وهو يمنع عنهم حقاً طبيعياً، ودستورياً وقانونياً. بالتأكيد يتم تجاوز كل هذا الحق، ويؤخذ التعهد لمخاوف أمنية، وحزبية، وسياسة متطرفة، يفرضها النظام على الناس، ويعد التعهد الأمني الورقة الأولى في سجل الملاحقة الأمنية إلى ملف تنفيذ الأحكام الجزائية بحقهم، هي في واقع الحال أحكام إجرامية بصيغ قانونية تفرض على المواطنين.
في أدناه صورة عن نماذج التعهدات الأمنية الصدامية التي تبدو طبيعية، وقانونية، وتتسم بالتعامل الرسمي المقبول، وقد تناسى من أصدر هذا التبليغ أنهم خرقوا مادة دستورية شرعت في حق الناس بالتعبير عن شعارهم وطقوسهم (المادة الخامسة والعشرون من دستور 1970 تنص على أن: حرية الأديان والمعتقدات، وممارسة الشعائر الدينية مكفولة، على أن لا يتعارض ذلك مع أحكام الدستور والقوانين، وأن لا ينافي الآداب والنظام العام, وعلى الرغم من كل التعهدات التي كان يقدمها الناس لفظياً وكتابياً، (ينظر : مقال حكاية زاير كاظم عن عاشورا,7/8/2022) https://iraqicenter-fdec.org/archives/3101 إلا أن البعث اعتاد على أن يتذرع بأبسط الحجج، ليمنع، ويتشدد، بالإجراءات التعسفية في منع الناس من حقهم الدستوري، وكيف يؤثر ذلك على نفسيتهم، وما يتركه من ندبات، ودموع، ومشاعر حزن، وهم يكتمون مشاعرهم الدينية والعقائدية. والوثيقة في أدناه توضح إجراءات ما قبل التعهد، وما بعده، من توعد بما يؤذي الناس في أجسادهم، ونفوسهم، وعقائدهم.