الكاتب : علي المؤمن
خلال القرنين 15 و16 الهجريين وتحديداً بين العامين 410 ـــ 610 للهجرة، أي خلال (200) سنة، تحوّل أغلب العرب من شيعة الى سنة، ولا فرق في ذلك بين زيدية وإسماعيلية وإثني عشرية، ولا فرق أيضاً بين شيعة بلدان آسيا العربية أو بلدان أفريقيا العربية؛ فقد طالتهم جميعاً عمليات الإبادة والاجتثاث المنظمة الجماعية، وهي تشبه الى حد كبير التصفيات الشاملة التي تعرض لها 85 بالمائة من سكان أمريكا الأصليين (ما عرف بالهنود الحمر)، خلال (300) عام. ولم تقتصر تصفية الشيعة العرب على البعد الاجتماعي والبشري، إنما طالت التشيع نفسه، كمنظومات حديثية وعقدية وفقهية وشعائر وطقوس وعادات وتقاليد.
والمفارقة؛ أن عمليات اجتثاث التشيع في البلدان العربية، وتصفية الشيعة العرب، وتحويل من تبقى منهم الى التسنن، وإسقاط الدول الشيعية العربية، وتغيير خارطة المذاهب في البلدان العربية لصالح الفرق والمذاهب السنية، ولصالح قيام دول سنية غير عربية، تمت على يد غير العرب، وتحديداً على يد قادة أتراك وأمازيغ (بربر) وأكراد، والذين أسسوا على أنقاض الدول العربية الشيعية في المغرب العربي ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق، دولاً سنية أمازيغية وتركية وكردية. وأبرز عمليات الاجتثاث هذه:
1- عمليات اجتثاث المعز بن باديس الصنهاجي في بلدان شمال أفريقيا:
بدأت مجازر القائد الأمازيغي (البربري) المعز بن باديس الصنهاجي وحملاته الاجتثاثية ضد الشيعة العرب في بلدان شمال أفريقيا في سنة 410 ه، ولم تقتصر أعماله على إسقاط الدول والإمارات الشيعية، وخاصة الإدريسية والفاطمية اللتين حكمتاأغلب شمال أفريقيا، إنما توسعت بشكل يعجز المؤرخ عن تصويره؛ إذ اجتث ملايين الشيعة، وأجبر من تبقى منهم على اعتناق العقائد والمذاهب السنية، ولذلك ليس غريباً أن تجد الأغلبية الساحقة من الأُسر العلوية العربية (السادة الأشراف) هم اليوم من السنّة، بعد أن كان أجداهم شيعة، حتى ذكر المؤرخون أن حجم مجازر المعز بن باديس تسبب في انقراض الشيعة هناك، ولذلك يصفه الطائفيون بأنه ناصر السنة وقاهر الشيعة.
2- عمليات اجتثاث طغرل بيك السلجوقي في العراق:
بدأ طغرل بيك السلجوقي التركي وقواته التركية، مجازره في العراق في سنة 450 هـ، بناء على طلب الخليفة العباسي، الذي استدعاه واستنجد به لتخليصه من الشيعة والبويهيين، مقابل تسليمه السلطة، أن كانت بغداد مقراً تأسيسياً للنظام الاجتماعي الشيعي؛ فقام السلاجقة بذبح الشيعة وإحراق دورهم ومكتباتهم، ودفع السنة في بغداد لقتل الشيعة وتهجيرهم، وخلال ذلك هاجرالشيخ الطوسي (زعيم الشيعة) إلى النجف الأشرف، وأسس حوزتها العلمية.
3- عمليات اجتثاث نور الدين زنگي في بلاد الشام وشمال العراق:
طالت مجازر نور الدين زنگي وقواته السلجوقية التركية، عدداً هائلاً من الشيعة العرب في شمال العراق بلاد الشام، بدءاً من العام 541 ه، بعد أن كانت الدولة الحمدانية الشيعية العربية، بعاصمتيها: الموصل العراقية وحلب السورية، تحكم المنطقة الممتدة من شمال العراق وحتى سوريا وفلسطين، وأعقبتها الدولة الفاطمية في حكم بلاد الشام إضافة الى مصر. وأسس على أنقاض الدول والإمارات الشيعية العربية في شمال العراق وسوريا ولبنان، دولة سنية كردية.
4- عمليات اجتثاث صلاح الدين الأيوبي في مصر وبلاد الشام:
تعد عمليات الاجتثاث الكبرى التي قام بها صلاح الدين الأيوبيوقواته الكردية ضد الشيعة العرب، هي الأعنف والأوسع والأكثر عمقاً في تاريخ المسلمين، ولم يقتصر فيها على مذهب شيعي دون آخر، بل شمل الإسماعيلية والزيدية والإثني عشرية في حملاته التي بدأها في مصر في العام 567 ه، وصولاً الى جميع بلاد الشام وبعض مناطق شمال العراق؛ إذ يُقدّر عدد من قتلهم أو استعبدهم أو شرّدهم حوالي 25 بالمائة من سكان مصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وشمال العراق، وهو رقم يعادل 80 بالمائة من شيعة هذه البلدان، فيما تم اجتثاث البقية الباقية من شيعة هذه البلدان، أو دفعهم نحو الاستحالة المذهبية، خلال المائة عام اللاحقة، على يد أولاد وأحفاد صلاح الدين الأيوبي الذين استخلفوه. وقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من خلال عمليات الاجتثاث والتصفية من تغيير حقائق الجغرافية السكانية المذهبية في شمال أفريقيا وغرب آسيا؛ إذ لم يقضى الأيوبي على الدولة الفاطمية أو يجتث شيعة مصر عن آخرهم، وأغلب شيعة بلاد الشام وإماراتهم، بل قضى على المذاهب الشيعية في مصر بالكامل أغلب بلاد الشام، لذلك؛ يحظى صلاح الدين الأيوبي بأرفع تمجيد وإشادة من النخب الدينية والسياسية السنية، وكذلك المؤرخين السنة العرب، على مدى التاريخ، ويعدونه البطل العظيم الذي اجتث الشيعة وغير خارطة المذاهب، ولكن عادة ما يتسترون وراء وهم تحرير صلاح الدين للقدس، لكن السبب الحقيقي وراء ذلك التعظيم هو سبب طائفي متجذر.
وهكذا نلاحظ؛ أن الخارطة الاجتماعية ــ السياسية للمذاهب الإسلامية في البلدان العربية، كانت خلال القرن الرابع الهجري تميل لمصلحة الشيعة بالكامل، حيث كانوا يشكلون المجتمع الغالب في العراق وبلاد الشام ومصر وبلاد المغرب العربي، لكن هذه المعادلة تخلخلت خلال القرن الخامس الهجري، ثم تغير كل شيء في القرن السادس الهجري، بفعل ما قام به أربع شخصيات فقط، هم المعز بن باديس وطغرل بك ونور الدين زنگي وصلاح الدين الأيوبي. أي أن الذي حوّل العرب من التشيع الى التسنن، في كل البلدان العربية، هم أربعة قادة غير عرب: أمازيغي وتركيّانوكردي.
وينبغي هنا الالتفات الى ثلاث ملاحظات:
1- إن عمليات الاجتثاث هذه لا تدخل في إطار الصراعات السياسية السلطوية بين الدول السنية والشيعية وسلاطينها،وإنما تدخل في إطار الاجتثاث المجتمعي الطائفي الذي كان يقوم بها الحكام المنتصرون ضد عموم الشيعة، حتى ممن لا علاقة له بالسلطة والسياسة، والعمل على اجتثاث المذهب الشيعي عقدياً وإنسانياً، وليس مجرد القضاء على الحاكم الشيعي أو الدولة الشيعية أو السياسيين والعسكريين الشيعة، لأنهم قلة عددية، بل كانت عمليات الإبادة الجماعية تستهدف المجتمعات الشيعية والناس العاديين، وهم الكثرة الكاثرة، وهو ما لم يكن يحصل عند قضاء حاكم سني على حاكم سني آخر؛ إذ لا يتعرض الحاكم السني المنتصر الى الناس العاديين السنة ولا الى المذهب الرسمي السني للدولة.
2- إنّ الملايين من الشيعة الذين تعرضوا للاجتثاث والانقراض في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام، كانوا من العرب الأقحاح،وكثير منهم علويون، أما الذين استعانت بهم السلطة العباسية فياجتثاث الشيعة والتشيع؛ فكانوا من غير العرب، وهم القادة الذين مر ذكرهم، والذين تحوّلوا الى (أيقونات) مقدسة في الخطاب العباسي ثم العثماني ثم القومي العربي؛ فالقوميون العرب يضعون صلاح الدين الأيوبي ــ مثلاً ــ بمصاف الأنبياء والصلحاء المقدسين، ليس لإنجازاته الإنسانية والإسلامية والقومية والعلمية، وليس لأنهم أوهموا الناس بأنه حرر القدس، بل لأنه اجتث الأكثرية السكانية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن وشمال العراق، رغم أن القوميين العرب لا يحبون الأكراد ولا يحترمونهم. وفي الوقت نفسه؛ يشن القوميون العرب أبشع حملات التعريض ضد القادة الشيعة العرب الإدريسيون والفاطميون والحمدانيون، لمجرد أنهم شيعة، رغم أنهم مسلمون وعرب، وكثير منهم من ذرية الرسول محمد، وهو ما يثبت تجذر طائفية المشروع القومي العربي.
3- فشلت حملات الاجتثاث الطائفية في اجتثاث شيعة جنوبالعراق ووسطه؛ إذ صمد التشيع فيه بفضل جذوره الإنسانية والاجتماعية الضاربة، وبفضل وجود مركز النظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف. وكذلك الحال بالنسبة لصمود شيعة إيران بوجه محاولات الاجتثاث الطائفي التي قام بها الترك والأوزبك والأفغان والعثمانيون، ولعل من أهم أسباب الصمود هذهالحضور القوي للعلويين والعرب الشيعة في إيران، ودعم واحتضان الإيرانيين لهؤلاء المهاجرين والمهجرين المضطهدين، منذ العصر الأُموي.