الكاتب : سلمان رشيد الهلالي
(قليلون حول الوطن … كثيرون حول الراتب) سلمان الهلالي
من الغرائب التي نجدها عند العراقيين في مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) وغيرها هو ان (الواحد) منهم يطعن يوميا بالدولة ويسبها ويهاجمها ويسخر منها , ليس من باب النقد الموضوعي والعقلاني والحريص على التقويم والتطوير , بل من باب الهجوم والتسقيط (وانها دولة العصابات والميليشيات والفساد وان النظام عميل وباع البلد ووو وغيرها من العبارات الدارجة بالفيس بوك والمقالات . او قد يصل الامر ان الكثير منهم يجزم بعدم وجود دولة بالعراق) …. ولكن الغريب بان هذا (الواحد) ما ان يطرح اسمه كمرشح لرئاسة الوزراء او وزير او نائب في البرلمان او وكيل وزارة او مستشار او مدير عام او رئيس جامعة او عميد في احدى الكليات حتى يفرح بهذا الترشيح مثل الطفل الذي ينتظر هدية العيد , وتظهر عليه علامات الحبور والانتعاش , ويتحول من النقد الهجومي التسقيطي السابق الى النقد الموضوعي الحريص على الدولة ومقدراتها واموالها ومؤسساتها , ويقدم المنشورات المعتدلة في مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) والمقترحات النظرية والحلول المثالية وغيرها … في الواقع ان هذا السلوك يشكل قمة التناقض والغرابة ولايعد سلوكا سويا او عقلانيا , فانت اذا اعتبرت هذه الدولة دولة العصابات والميليشيات , والنظام السياسي عميل وباع الوطن وليس عنده ارادة وطنية , فكيف تقبل لنفسك العمل معه ؟؟ او تكون جزء من منظومة الفساد ؟؟ او كيف تسمح لنفسك ان تعطي الشرعية للنظام وانت من ضمن النخبة الثقافية في البلد ؟؟ طبعا هناك من يقول ويعطي المبرر الكاذب انه يريد الانضمام للحكومة من اجل التغيير من الداخل والاصلاح من خلال المؤسسات الرسمية !!!! وطبعا هذا من اغرب الاراء واكذبها في العراق , فالكثير من العراقيين بعد السقوط انضموا للنظام السياسي والحكم التوافقي ولم يغيروا من الداخل , او يبادروا للاصلاح الحقيقي ان لم يكن العكس , فقد دعوا للتغيير والاصلاح عندما اصبحوا في الخارج !!! لان الكثير منه اخذ بنقد الحكومة والهجوم عليها وطرح المعالجات النظرية والاصلاحية بعد ان اصبح خارج الحكومة , وبعد ان ضمن مستقبله وحياته عندما خرج منها بتقاعد مليوني وجواز سفر دبلوماسي ورصيد عقاري امثال وائل عبد اللطيف ومحمد شياع السوداني وبيان جبر ومحمد اقبال ونديم الجابري وطاهرالبكاء وعدنان الاسدي وبهاء الاعرجي ومحمود المشهداني واياد علاوي وغيرهم العشرات … ان الكثير من العراقيين قد يفسر هذا السلوك بالنفاق , ولكن الواقع غير ذلك .. انه جزء من الازدواجية وصراع قيم المدنية والريف او البداوة عند العراقيين , فاذا طبقنا منهج الدكتور علي الوردي على هذا السلوك نجد ان العراقي عنده شخصيتين :
الاولى : الشخصة الاولى المدنية التي تنقد الحكومة وتهاجمها وتنال منها لانها تدخل ضمن الشخصية التي تتاثر بقيم المدنية والحضارة التي تطالب بالعدالة والمساوة والنزاهة وغيرها …
الثانية : الشخصية الثانية البدوية التي تتاثر بقيم البداوة والريف والعشائرية القائمة على الاستحواذ والابهة والتباهي بالمناصب وغيرها , وهى لاتبالي بالقيم المدنية الاولى القائمة على النزاهة والعدالة وسيادة القانون , ومايهمها هو المغانم والاستحواذ والمناصب والاموال …
وهذا يعني ((ان نقدة للدولة ومهاجمتها هو يدخل ضمن قيم الحضارة والمدنية . وقبوله بالمنصب هو من ضمن قيم البداوة والاستئثار والتغالب)) (اي انه يرتفع بافكاره الى مستوى اعلى من مستوى بيئته الاجتماعية) … والدكتور الوردي يرفض وصف هذا السلوك عند العراقيين بالنفاق , وانما يصفه بالازدواجية , لانه يعتبره ضمن خانة التصرف اللاشعوري … ولكن بالطبع الكثير يخالف المرحوم الوردي بهذا الوصف ويعتبرونه ضمن خانة النفاق , فيما ان الواقع الذي اراه هو اذا مارس هذا السلوك اللاواعي الانسان العامي البسيط فهو لايطلق عليه تسمية النفاق , على اعتبار انه غير مدرك لصراع الحضارة والبداوة والازدواجية التي يعاني منها اغلب العراقيين . ولكن اذا مارس هذا التناقض والازدواجية المثقفين والمتعلمين العارفين بهذا الواقع ومدركين لازدواجيته وتناقضه , ولدوافع انتهازية ومصلحية من اجل المناصب والمغانم فهو نفاق اصيل يتجاوز نفاق (عبد الله بن سلول) في يثرب !!
ومناسبة هذا المقال هو نقاش لي مع العديد من السياسيين العراقيين الذين تسنموا مناصب عليا في الدولة بعد السقوط عام 2003 . حيث وجدت عندهم هجوما لاذعا على الدولة العراقية ونعتها بابشع الاوصاف والمفردات الشعبوية عند خروجهم من موقع المسؤولية , فيما هم كانوا جزءا رئيسيا من القرار والحكم في السلطة التنفيذية والمراقبة والتشريع في السلطة التشريعية . وللاسف نجد ان الاغلبية من المعلقين العراقيين المنافقين يؤيدونهم باقوالهم وعباراتهم , ولايسالونهم عن موقفهم ابان وجودهم بالسلطة واسباب تقصيرهم وتراخيهم , وماهو العمل الذي قاموا به للاصلاح ؟؟ ولماذا قبلوا العمل بهذا النظام الفاسد والمترهل ؟؟ وكالعادة ان اغلبهم يؤكد انه اراد الاصلاح ومواجهة الفساد والمحاصصة , الا انه القوى الاخرى والاحزاب المتنفذة لاتقبل بذلك , وانه تعرض للتهديد والتصفية والتسقيط , رغم ان الواقع الحقيقي هو ان ترشيحه كان من تلك الاحزاب والقوى السلطوية وتسنمه لهذا المنصب كان بفضلها ودعمها , وحسب نظام المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية السائد في البلاد . وكان اخر من حصل النقاش معه في موقع (الفيس بوك) هو الدكتور نديم الجابري رئيس كتلة الفضيلة في مجلس النواب في الدورات السابقة وعضو التحالف الوطني الشيعي وعضو الجمعية الوطنية العراقية التي كتبت الدستور العراقي عام 2005 بل هو في الاصل كان عضوا في لجنة كتابة الدستور , الا ان الجابري في احدى المنشورات الشعبوية رفض ليس وجود الدولة في العراق , بل حتى وجود السلطة !!! وعندما قلت له (دكتور اذا لم يوجد في العراق دولة ولاسلطة فكيف تقبل لنفسك الترشيح لرئاسة مجلس الوزراء !!؟؟؟) فاجاب ( انا اقبل الترشيح من اجل ان اعيد بناء الدولة والسلطة !!) تخيلوا الامر !! الدكتور نديم الجابري (المكرود) يريد او يستطيع بناء الدولة والسلطة في العراق !!
في الوقت الذي لانريد الدخول بالجدل العقيم حول هل يوجد دولة في العراق ام لايوجد … ولكن اذا سلمنا بقوله بعدم وجود دولة فكيف يستطيع الجابري تكوينها وهو من ساهم بسياقات تكبيلها مع المؤسسين الامريكان مثل المحاصصة والتوافق ؟؟ اعتقد ان الامر ليس كذلك فالسيد الجابري يريد تكرار نفس السيناريو الذي قام به جميع السياسيين العراقيين بعد 2003 …. فهو سيوافق على منصب رئيس الوزراء الذي يعلن على الدوام ترشيحه بصورة غير مباشرة , حتى من خلال ساحات التظاهر , ويبقى على نفس السياقات والاليات المعمول بها في الدولة العراقية , ولايغير من الاوضاع السياسية والاقتصادية الا القليل … وبعد ضمان التقاعد الفلكي له والامتيازات والحمايات والتعينات لاولاده بالسفارات والجوازات الدبلوماسية … وبعد خروجه من المنصب سيقول (والله انا حاولت الاصلاح ولكن الكتل والاحزاب لم توافق !!) عندها سيبرء ذمته امام التاريخ ويعيش مرتاح الضمير وينزل منشورات بالفيس بوك ينتقد فيها الحكومة ويموت كرجل وطني صالح قرير العين !!!! ويتنعم اولاده واحفاده حتى ثلاث اجيال متتالية بمغانمه … وستكتب عنه رسالة ماجستير في الجامعات العراقية حول دوره الوطني !!!
مانذكره عن الدكتور الجابري ليس حالة شاذة او نادرة في العقل السياسي العراقي , وانما هو حالة عامة – للاسف – عند جميع او اغلب المسؤولين العراقين , فهم مندرجون ضمن النظام السياسي والفساد والمحاصصة , ولكن ما ان يخرجوا من السلطة والحكم حتى ياخذوا بالنقد وكتابة المنشورات بالفيس بوك ضد الحكومة , وطبعا القليل من الشجعان والصادقين يقولون له دون نفاق (وانت اين كنت ؟؟؟!! لماذا لم تبادر بالاصلاح ؟؟ لماذا لم تستقيل وتتنازل عن الامتيازات الفلكية ؟؟) . ولكن اعتقد ان هناك شبه اجماع عند العراقيين على استمرارية نسق النفاق والازدواجية فيما بينهم حتى يحصل تبادل المنفعة والادوار واتاحة الفرصة للجميع باستغلال هذا النسق للصعود والارتقاء بالمناصب والمغانم والرواتب الفلكية من جهة , والانتقاد والسخرية من الدولة والهجوم عليها من جهة اخرى . والا فانا على يقين قاطع ان جميع كتاب المنشورات بالفيس بوك والمقالات بالانترنت – وخاصة موقعنا المفضل – الحوار المتمدن – او المواقع الاخرى في الصحف والمجلات , من الذن ينقدون الدولة العراقية نقدا متطرفا ويصفونها بعدم الوطنية والعصابات والميليشيات والفساد والعميلة وغيرها , ما ان تطرح اسمائهم مرشحين ضمن التشكيلة الحكومية كوزير او سفير او مستشار او مدير عام او رئيس جامعة , حتى يوافق على المنصب دون تردد ويقبل به بسرعة الضوء . واما منشوراته ومقالاته الانتقادية السابقة , فانها ستذهب ادراج الرياح , فالكلمات عند الشرقيين – كما تقول المس بيل – لااثر لها في السلوك والمواقف , فهو عدما يكتب ضد الفساد لانه يريد حصة من الفساد , بل لانه بالاصل مشروع فاسد مع وقف التنفيذ , فالانسان الذي لايلتزم بابسط معايير القانون والوظيفة في الدولة ويتعمد التسيب والاستغلال , فكيف يلتزم باموال الدولة الطائلة ؟ ومن يفتقد الموضوعية والحيادية والعقلانية في الكتابة , فكيف تتوقع منه الالتزام امام الملايين من الدولارات ؟؟ ومن يقبض الرواتب والمكافئات غير القانونية من حكومة البرزاني بدرجة وزير او وكيل وزارة , فكيف تتوقع منه عدم التجاوز على المال العام ؟ وبالطبع ان الكثير ممن سيقرأ هذا الموضوع سيؤكد ان لن يقبل الترشيح مع هذه الدولة الفاسدة , وانه قد عرضت عليه المناصب مرارا وتكرارا , وهو رفض ذلك . ولاحاجة الى القول ان ذلك كذب صريح لايقبله العقل , وهو في الحالتين ايضا مدان , لانه اذا قبل المنصب فان ذلك سيكون من قبله نفاقا صريحا , واذا ادعى انه سوف لايوافق , فالامر سيكون اسوء , لانه سيكون كاذبا اصيلا وتاريخيا .
ان الطموح السياسي في تولي المناصب العليا في الدولة ليس عيبا او منقصة , خاصة للافراد الذين يمتلكون رؤية معينة للاصلاح يكون مستعدا للتضحية من اجلها , او لمن عنده رغبة بترك بصمة ظاهرة لنفسه وتاريخه تكون خالدة في العمل السياسي والوظيفي , ولكن العيب والعار المبين هو تهاجم هذه الدولة هجوما غير موضوعيا , او تصفها بدولة العصابات والميليشيات والفساد والعمالة ثم تقبل العمل معها او ضمن احزابها الحاكمة . وكذا الامر مع النقد السياسي الموضوعي والمنطقي فهو جانب مهم وضروري للتقويم والتصحيح للمسار الحكومي ولايشكل اي منقصة او حرج ولكن الاشكال في النقطتين :
الاولى : الهجوم والتسقيط والنقد غير الموضوعي والعقلاني في منشورات مواقع التواصل الاجتماعي واهمها (الفيس بوك) والذي يخضع للمحاباة والانتقائية والدوافع المالية والانتهازية .
الثانية : القبول بالمناصب الحكومية العليا في الدولة العراقية رغم النقد المتطرف الذي يوجهه لها . رغبة بحيازة الراسمال الرمزي والامتيازات والمخصصات والمكتسبات والتي يوفرها هذا المنصب .
وصدق الخليفة ابو جعفر المنصور عندما وصف العراقيون قبل اكثر من الف عام بقوله (كلكم يطلب صيد الا عمرو بن عبيد) .