ديسمبر 12, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي


(بمناسبة مرور مائة عام على ثورة العشرين 1920 – 2020)
يعد الدكتور علي الوردي افضل من كتب عن ثورة العشرين حتى الان . وهذه الافضلية غير مقتصرة على الكتاب العراقيون فحسب , بل وحتى على الكتاب الاجانب الذين ذكروا هذه الثورة واحداثها وفق توجهاتهم السياسية والشخصية . كما انها لم تاتي من الحيادية والموضوعية والنقدية التي تميز بها فحسب , وانما حتى من الشمولية والتحليل التاريخي والعرض المميز لاحداث الثورة منذ البواكير الاولى وحتى النهاية , وما اعقبها ايضا من احداث وتداعيات واشكالات , بقي تاثيرها قائما حتى الان . ولم ينطلق الوردي في دراسته لثورة العشرين من اي خلفية ايديولوجية او سياسية او مذهبية او دينية او حتى وطنية , فهو قد تسامى عن تلك المنظورات والمرجعيات والخلفيات بحكم النزعة الليبرالية والعقلانية التي تميز بها طوال مراحل حياته . فقد كان حياديا في عرض الثورة وتقييمها بصورة وجهت له الكثير من النقودات والتساؤلات , بل وحتى الهجومات والاتهامات .
كتب العديد من الباحثين عن رؤية علي الوردي عن ثورة العشرين كان اهمهم الكاتب عمر سعد سلمان عن دراسته (ثورة العشرين في فكر الدكتور علي الوردي) ولم استطع العثور عليها بالانترنت . كما عرضت الدكتورة لاهاي عبد الحسين الجزء الخامس الخاص بثورة العشرين في كتاب (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) للدكتور علي الوردي بعنوان (كتاب لن انساه حول ثورة العشرين للوردي) وهو افضل استعراض مختصر للكتاب ومنهجه وفصوله . وقد بدات بالمقدمة التالية عن الكتاب (طبع القسم الأول منه في مطبعة المعارف عام 1977 وطبع القسم الثاني منه في مطبعة الأديب البغدادية عام 1978 على التوالي ويقع القسمان فيما يزيد على 600 صفحة. ولعل ما أهلّ هذا الكتاب ليكون”كتاب لنْ أنساه”أنّه أتى بجديد وحقق خرقاً للمألوف ووضع إسهامة ملموسة ومحسوسة في مجال المعرفة العلمية لأحد أهم ما حدث في تاريخ العراق المعاصر، ثورة العشرين، وذلك من وجهة نظر اجتماعية متميزة قدمت إنموذجاً للمهتمين والدارسين في مجال”علم الاجتماع التاريخي”. يستخدم الوردي في هذا الكتاب، منهجية علمية تعتمد الوقائع التاريخية الموثقة مادة، وتسترشد بفكرة مفادها أنّ للبداوة دوراً مهماً في صناعة التمرد والثورة. هذا إلى جانب الاستشهاد بأسماء شخصيات معروفة ومقولات متواترة معبّراً عنها بآراء تتسم بالدماثة والسخرية المحببة والنزعة الشخصية التي تترك القارئ بشعور أنّه/ أنّها معه يجالسه ويحكي وإياه أو يتجادل على الضد منه) .
(أستهل الوردي كتابه بنقد لاذع لجملة من الكتّاب المعروفين في المحيط الثقافي العراقي ممن كتبوا عن ثورة العشرين من أمثال، رضا الشبيبي وعبد الرزاق الحسني وكاظم المظفر وعبد الشهيد الياسري، إلى جانب المستعرب الروسي كوتلوف، الذي أصدر كتاباً يستند إلى أطروحته للدكتوراه عام 1958 عن ثورة العشرين. وكان السبب الرئيس لموجة النقد التي وجّهها الوردي هذه يقوم على فكرة طغيان أسلوب”الحماسة والتمجيد”و”النزعة الخطابية”على كتابات أولئك الكتّاب ممن شدّدوا على الجوانب الإيجابية وأهملوا الجوانب السلبية. ويستشهد الوردي بنقاده من أمثال مؤيد الياس بكر الذي نشر مقالة بعنوان(حول لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، في مجلة (الجامعة) الصادرة عن جامعة الموصل في عدد شهر تشرين أول من عام 1976 والذي اتهم فيه الوردي، بأنّه يكتب بطريقة محبطة للعزائم ومثبطة للهمم. وردّ الوردي معبّراً عن رأيه، في أنّ الناقد بالغ في سرد المواقف المعادية للإنكليز واستخدم طريقة خطابية تعبوية دون أنْ يكلف نفسه عناء التوقف عند ردود الفعل الاجتماعية التي تميزت بالتخبط والخلط وانعدام الرؤية والتنسيق على مستوى التفاصيل الدقيقة لعملية بناء وتأسيس نظام الدولة الحديث في العراق، مستفيدين من فرصة التخلص من الحكم العثماني المتخلف والمريض) .(انتهى)
اكد الوردي في مقدمة هذا الجزء الخامس الخاص بثورة العشرين بان (هذا الجزء يبحث في الثورة العراقية التي حدثت عام 1920 وهى التي سميت بثورة العشرين . والواقع ان هذه الثورة صدرت حولها دراسات ومؤلفات تفوق بكثرتها ماصدر حول اي حدث تاريخي اخر من تاريخ العراق الحديث) وقد انتقد الوردي اولئك الكتاب الذين نشروا تلك الدراسات والمؤلفات بالقول (ان معظم الدارسين لهذه الثورة من الكتاب العرب اتخذوا في كتاباتهم اسلوب التمجيد والحماس , حيث رايناهم يميلون الى التاكيد على الجوانب الحسنة من الثورة ويبالغون فيها , بينما هم يغضون النظر عن الجوانب السيئة ويحاولون تبريرها) مؤكدا ان المنهج الذي سوف يسير عليه هو (نفسه الذي سرت عليه في الاجزاء السابقة – والذي سوف اسير عليه في الاجزاء اللاحقة – وهو ذكر الاحداث كما وقعت من غير تحيز لها او عليها , مع الاخذ بنظر الاعتبار طبيعة المجتمع الذي وقعت فيه تلك الاحداث) . الا ان الوردي لم يكتم مخاوفه من هذا المنهج بالقول (لا اكتم القارىء اتي ترددت طويلا في اصدار هذا الجزء , لاني اعلم ان هذا المنهج سوف يثير امتعاض الكثيرين من القراء الذين اعتادوا على منهج التمجيد والحماس , فليس من الهين عليهم ان يروا منهجا اخر يتبع في دراسة ثورة العشرين , وربما اتهموني بخيانة الوطن او التحيز للاستعمار , وهى تهمة فظيعة كما لايخفى . لا انكر ان ثورة العشرين تستحق التمجيد وتستحق ان يفتخر بها العراقيون ويطنبوا في الثناء عليها والتغني بمحاسنها , ولكني مع ذلك اعتقد ان ليس من المصلحة الوطنية ان نظل نواصل التمجيد للثورة دون ان نقف قليلا لنستخلص مافيها من عبر اجتماعية) . واضاف الوردي (ان ثورة العشرين هى كاي حدث بشري اخر لابد ان تحتوي على المحاسن والمساوى معا , وقد ان الاوان – فيما ارى – لان نضع هذه الثورة على منضدة التشريح العلمي فندرسها دراسة موضوعية من مختلف جوانبها الحسنة والسيئة) .
بدا الوردي الفصل الاول بتعليل اسباب الثورة , منتقدا المنهج السابق في بيان اسبابها واستعراض دوافعها الذي يستند على التطرف والغلو في بيان مساوىء الانكليز , واعتبار الثورة نتيجة حتمية لتلك المظالم بقوله (داب بعض كتابنا عند شرحهم اسباب ثورة العشرين ان يؤكدوا على امرين اثنين : اولهما ان الاحتلال الانكليزي كان ظالما قاسيا على درجة لاتطاق . والثاني ان الشعب العراقي شعب ابي لايقبل الضيم ولايحب الخضوع لحكم الاجانب . ثم يستنتجون من ذلك ان ثورة العشرين هى اذن نتيجة محتومة , ولابد ان تحدث من جراء تفاعل هذين السببين) . مؤكدا ان هؤلاء الكتاب (صاروا يتزايدون في وصف الظلم الذي حل بالعراق في عهد الاحتلال , كل منهم يريد ان يبز الاخر في وصفه فظاعة الظلم وتعديد صوره , ولعلي لااعدو الصواب اذا قلت ان المبالغة في وصف الظلم الانكليزي اصبحت عندهم من امارات الوطنية , فالكاتب الذي يجب وطنه يجب في نظرهم ان يصب اللعنات على الانكليز , ويطنب في وصف ظلمهم الفادح على العباد . اما من لايفعل ذلك فلابد ان يكون من عملاء الاستعمار والعياذ بالله) . ثم استعرض الوردي نماذج من تلك الاراء التي بالغت في وصف مساوىء الانكليز وحتمية الثورة , اقتطعها من كتابات محمد رضا الشبيبي وعبد الرزاق الحسني وكاظم المظفر وعبد الشهيد الياسري الذين كتبوا عن ثورة العشرين سابقا , وعلق عليها قائلا (ان هذا الكلام المذكور انفا هو اقرب الى اسلوب الشعر والخطابة منه الى الموضوعية والمنهج العلمي . اني لاانكر انه اسلوب حسن اذا كان المقصود منه اثارة الحماس الوطني في افئدة الناشئة الجديدة , انما هو لايصح ان يكون اسلوبا للبحث العلمي الذي ينبغي ان يكون من نمط اخر) مؤكدا انه من العجب (حقا حين اقرا ماكتبه الكتاب عن مظالم الاحتلال الانكليزي ومثالبه كالحجر على الافكار وتقييد الحريات العامة والمصادرة والنهب واستنزاف جهود الفلاحين والسخرة واذلال العراقيين واضطهادهم . والواقع ان ادركت في طفولتي عهد الاحتلال وكنت اسمع الناس يتحدثون عنه ويقارنون بينه وبين العهد التركي , ولست ادري كيف اوفق بين هذا الراي الذي كنت اسمعه من الناس وبين ماكتبه هؤلاء الكتاب ….. لست اريد ان ادافع عن عهد الاحتلال فهو لم يكن خالي من المظالم والمثالب , ولكن الذي اعرفه معرفة وثيقة ان الاتراك هم الذين لجاؤا الى المصادرة والنهب , اما الانكليز فكانوا على العكس من ذلك يشترون الحبوب وغيرها من المواد المحلية باسعارها السائدة في السوق , ويدفعون اثمانها نقدا , وقد ادرى ذلك الى ظهور تضخم نقدي هائل لم يشهد العراق مثله من قبل …. ان عدائنا للانكليز يجب ان لايكون سببا لتشويه الحقائق , فلقد ذهب الانكليز ولكن الحقائق تبقى كما هى لكي نستمد منها العبرة) . كما ان انتقد الوردي من جانب اخر الراي الذي يقول ن الثورة (هى امتداد للمعارك التي كانت العشائر العراقية تقوم بها ضد الحكومة التركية بين كل حين واخر , فهم يعتبرون الثورة كالمعارك السابقة نوعا من التمرد على النظام والقانون والحضارة . والعشائر العراقية في رايهم تعادي كل حكومة مهما كان نوعها , اذ هى بطبيعة تراثها البدوي تميل الى الغزو والنهب وفرض الاتاوة) وادرج بهذا الصدد راي الكاتب الانكليزي (لايل) الذي اكد (ان الطبيعة الفوضوية المشاغبة التي اتصف بها اهل العراق معروفة تماما لدى المطلعين على شؤون الشرق الاوسط من الساسة الاوربيين , وان عدم رغبتهم فينا ليس بالامر الجديد , فهم لايحبون اي شكل من اشكال الحكومة يمنعهم من مواصلة غرائزهم المورثة في التمرد على القانون واقتراف الجرائم العنيفة) . وقد علق الوردي على ذلك بالقول (لاشك عندي ان التراث البدوي كان عاملا مهما من عوامل ثورة العشرين على نحو ماكان في المعارك العشائرية السابقة , وقد يصح ان اقول ان الكثير من العشائر حاربت في اثناء ثورة العشرين بنفس الروح التي كانت تحارب بها الحكومة في العهد التركي , ولكن يجب ان لاننسى ان ثورة العشرين تميزت بخصائص جعلتها تختلف اختلافا كبيرا عن المعارك السابقة اهمها :
اولا : لم يشهد العراق في العهد التركي اية معركة اشترك فيها اهل المدن مع العشائر . فقد كان هناك نوعا من النفور او الاحتقار المتادل بين العشائر واهل المدن , ولكن هذا النفور اختفى في اثناء ثورة العشرين , ولاسيما في الفرات الاوسط .
ثانيا : لم يكن للمعارك السابقة اي صبغة دينية الا نادرا , ولم يحدث ان افتى علماء الدين بتاييد تلك المعارك على وجه من الوجوه . اما في ثورة العشرين فقد افتى العلماء بتاييدها واعتبروها جهادا في سبيل الله وانفقوا عليها من الحقوق الشرعية .
ثالثا : لم تكن مفاهيم الوطنية والاستقلال وامثالها مالوفة لدى العراقيين في الماضي , غير انها اصبحت متداولة بينهم في اثناء ثورة العشرين , يلهجون بها ويهتفون لها , وممن الممكن اعتبار ثورة العشرين المدرسة الشعبية الاولى التي علمت العراقيين تلك المفاهيم , وكانت بداية الوعي الوطني الذي اخذ ينمو بعد ذلك بمرور الزمن .
رابعا : لم يحدث لاي معركة من المعارك السابقة ان امتدت في انحاء العراق بمثل ذلك النطاق الواسع الذي امتدت به ثورة العشرين … يمكن القول ان ثورة العشرين هى اول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم , فقد شوهدت العمامة الى جانب الطربوش والكشيدة الى جانب اللفة القلعية والعقال الى جانب الكلاو وكلهم يهتفون يحيا الوطن ) .
اما الفصل الثالث الخاص باسباب الثورة فقد ادرج الوردي اسبابا لم يذكرها احدا قبله من الكتاب , تعبر عن الطبيعة الاجتماعية الحقيقية للفرد العراقي ,وليس الاسباب الخطابية والحماسية السائدة في كتابات الاخرين . وقد بداها باستعراض موقف العراقيين من الاحتلال البريطاني مؤكد ان معظم العراقيين – ولاسيما اهل المدن منهم – استقبلوا الاحتلال الانكليزي عند اول دخوله بالابتهاج والترحيب , وذلك لشدة ما عانوه من الحكومة التركية خلال فترة الحرب من مشاق وبلايا والام , مؤكدا ان احد المسنين قال له : انهم في بداية الحرب كنا نجتمع في المساجد ندعو الى انتصار المسلمين على الكفار , وذلك تحت تاثير حركة الجهاد , ولكن في اواخر الحرب صرنا ندعو الله ان يهلك الترك وينصر الانكليز استنادا للقول الماثور(الكفر يدوم والظلم لايدوم) , الا ان الوردي استدرك بالسؤال الاتي : اذا كان العراقيين قد استقبلوا الاحتلال الانكليزي بالابتهاج والترحيب , فكيف تحولوا الى التذمر بعد فترة صغيرة لاتتجاوز السنة والسنتين , حيث قاموا بتلك الثورة الكبرى ؟ اجاب الوردي على ذلك بمقاربات عديدة اهمها ان كل نظام لابد ان يحمل المساوىء الخاصة به مما يؤدي الى انتشار التذمر من جديد عازيا ذلك التذمر الى :
اولا : الفرق بين نظامين : وهو اختلاف صيغة الحكم بين الترك والانكليز , فالدولة العثمانية كانت تسير في الحكم وفق مااسماه الوردي (الحكم السائب) , اي انها تترك الناس يفعلون مايشاؤون ولاتتدخل في شؤونهم , الا فيما يخص جباية الضرائب . ولهذا خربت البلاد واندثرت ترع الري وتكررت الاوبئة وشاعت الغزوات والمعارك القبلية وقطع الطرق وفرض الاتوات وغيرها , وقد اعتاد العراقيون على هذه الحياة حتى اعتادوها واعتبروها كانها الحياة الطبيعية . فلما جاء عهد الاحتلال شهد الناس نظاما للحكم غير مستساغ من قبلهم من حيث الصرامة في تطبيق القوانين والانظمة , وقل تاثير الرشوة والوساطة . كما حصل انقلابا في الطبقات الاجتماعية حيث قرب الانكليز بعض العوام فقلدوهم المناصب الحكومية .
ثانيا : نتائج التضخم النقدي : ويقصد به توفر السيولة النقدية الكبيرة عند الناس وارتفاع الاسعار بسبب ذلك . فقد حصل خلال عهد الاحتلال البريطاني للعراق تضخم نقدي عجيب لم يشهد العراق له مثيلا من قبل , وذلك من جراء مابذله الانكليز من اموال في شراء ماتحتاجه جيوشهم من اطعمة وبناء الثكنات والقناطر وتعبيد الطرق ومد السكك الحديدية وغير ذلك , ومن الطبيعي ان يستفاد الكثير من التجار والمزارعين والمتعهدين من هذا الانتعاش الاقتصادي , ولكن من جانب اخر ان البعض سيتاذى من جراء ارتفاع الاسعار – وخاصة المواد الغذائية – الامر الذي اضطر الانكليز الى فتح ثلاث مخازن لتوزيع الطحين على الناس بالبطاقات في بغداد (الكرخ والرصافة والكاظمية) . وكان من الطبيعي ايضا ان زيادة الارباح والتضخم الاقتصادي يعقبها ارتفاع نسبة الضريبة على الملاكين والشيوخ والتجار , وهذا مازاد من النقمة على الانكليز , فالعراقيون – كما يقول الوردي – ينسون الارباح المفرطة التي جنوها بسبب ارتفاع اسعار الحبوب , بينما يتذمرون من زيادة الضرائب ,لانهم يعتبرون الارباح رزقا ساقه الله اليهم , واما الضرائب فهى تؤخذ منهم ظلما واعتسافا .
ثالثا : السياسة العشائرية : كانت السياسة العشائرية للدولة العثمانية في العراق تعتمد سياسة التفريق وتشجيع التنافس والنزاع بين العشائر , لكي لايتحدوا او يتفقوا ضدها , الامر الذي ادى الى كثرة المنازعات والمعارك والاضطرابات وقطع الطريق وفرض الخاوات وغيرها . وعندما احتل الانكليز العراق ساروا على سياسة مختلفة وهى توحيد العشائر بدلا من تشتيتها , اي اختيار شيخ واحد في كل منطقة من مناطق العراق ودعمه بالمال والسلاح والنفوذ , لكي يكون مسؤولا عن الامن والنظام في منطقته , الا ان تلك السياسة جعلتهم مكروهين من قبل عدد كبير من الشيوخ الاخرين الذين يرون واحدا منهم وقد اصبح سيدا مطلقا عليهم
رابعا : العدالة المكروهة : سبق ان ذكر الوردي ان العراقي عندما يطالب بالعدالة وينادي بها في خطبه واقواله وارائه , انما يقصد بها العدالة التي تنفعه وتعيد له حقه وليس العدالة الحقيقية والمثالية . واما اذا تصادمت تلك العدالة مع مصالحه وامتيازاته فانه سيعترها ظلما عليه واجحافا له ويرفضها , وهذا الامر شبيه لما حصل بعد الاحتلال البريطاني , فقد طبق الانكليز مفهوم العدالة وسيادة القانون بين الجميع , الغني والفقير والشيخ والفلاح , الامر الذي جلب النقمة من الاوساط المتنفذة .
خامسا : رعونة بعض الحكام : ذكر الوردي ان الانكليز عينوا في الوية العراق ومدنه العديد من الضباط الشبان كحكام ساسيين , ورغم ان البعض منهم كانوا مجاملين ومثقفين , الا ان الكثير منهم كانوا على درجة غير قليلة من الرعونة والتهور والتعالي , ويعتقدون بما يسمونه (رسالة الرجل الابيض) في تمدين الشعوب المتخلفة , لان العراقيون في نظرهم متوحشون وبحاجة الى ان يحكمهم البريطانيون مائة سنة على الاقل , لكي يتعلموا كيف يحكمون انفسهم . وفد ادرج الوردي في كتابه الكثير من الامثلة والقصص عن تلك التصرفات والسلوكيات , واعتبرها من اسباب التذمر والانقسام بين الانكليز والشيوخ المتنفذين .
واما الفصل الثالث فقد اهتم الوردي بدور الموجهين في ثورة العشرين , واعتبر لهم الدور الاكبر في تحريض الجماهير واثارتهم ,وقصد بالموجهين رجال الدين والوعاظ والخطباء والشعراء والمؤلفين والكتاب والمعلمين والقصاصين وغيرهم . وقد اكد الوردي ان الانكليز عند احتلالهم بغداد 1917 حاولوا اجتذاب الموجهين اليهم بالاموال , ونجحوا في بعضهم , واخفقوا في البعض الاخر . واصدروا جريدة (العرب) اناطوا باداراتها الباحث الاب انستانس ماري الكرملي , وخصصوا الاجور المغرية لكل شاعر وكاتب ينشر فيها . وقد تعجبت المس بيل من الشعراء والكتاب الذين كانوا سابقا يمدحون الترك واليوم يذمونهم , وقالت : ان الكلمات عند الشرقيين هى مجرد الفاظ لاتعني شيئا , فقد يقولون اليوم شيئا وينقضونه غدا , وهم لايتركون هذه العادة ابدا , الا ان الوردي ذكر ان هناك فئتين من الموجهين لم يستطع الانكليز اجتذابهما وهما الملائية والافندية , رغم انهم الاقدر على اثارة الجماهير من الكتاب والشعراء .
والافندية : هم الاشخاص الذين كانوا موظفين او ضباطا بالعهد التركي , وقد فقدوا مناصبهم ووظائفهم في عهد الاحتلال , وصار الكثير منهم بلا مورد مالي , واصبحوا رواد المقاهي ويبثون الدعايات ضد الاحتلال ويبشرون بعودة الترك الى العراق . واكد الوردي ان الافندية لهم تاثير كبير على اثارة الناس واشاعة التذمر , لانهم كانوا يطالعون الصحف ولهم معرفة في السياسة والتاريخ والجغرافية , وعندما كانوا يتكلمون بهذه الامور , كانوا يحصلون على اعجاب العامة والناس . وقد استغلوا هذه السمة في التحريض على الانكليز .
والملائية : فهم رجال الدين الشيعة والسنة . وبين الوردي الفرق بينهم بان رجال الدين السنة يشبه ان يكون موظفا حكوميا , وان معاشه على الدولة , وبالتالي فهو يجاريها بمواقفها السياسية والدينية . واما رجال الدين الشيعة فهو يستمد معاشه من الناس , وكلما زاد اقبال الناس له زادت موارده المالية , وهو بذلك يكون وثيق الصلة بهم ويتحسس مشاعرهم ومعاناتهم ويميل الوقوف الى جانبهم ضد حكامهم , ولايسمح بوقوع الظلم عليهم , الا انه قد يضطر الى مجاراتهم في خرافاتهم وعاداتهم الموروثة . وقد حاول الانكليز اجتذاب الملائية باي وسيلة , ونجحوا مع السنيين نجاحا غير قليل , ولكنهم اخفقوا مع الشيعة . وعزى الحاكم البريطاني ويلسون في مذكراته عداء الملائية الشيعة للانكليز الى نفورهم من اي حكومة دنيوية منظمة (انهم يدركون بجلاء ان وجود ادارة قديرة ومنظمة تنظيما جيدا يؤدي الى تحسين معيشة الجماهير , وان هذا التحسن مع التربية الحرة سوف يؤدي خلال مدة غير طويلة الى هدم نفوذهم , والى تهديد مايحلمون به من اقامة حكومة دينية) . وقد علق الوردي على هذا الكلام بالقول (اني اخالف ويلسون في رايه هذا , فالملائي الشيعي لايملك مثل هذا التفكير المستقبلي , وان الملائي هو كغيره من الناس صنيعة الظروف التي يعيش فيها , وهو لاينظر في الامور , الا من خلال المفاهيم والقيم السائدة في محيطه) . وبين الوردي ان الشيخ محمد رضا الشبيبي ذكر ان الانكليز حاولوا اعطاء الاموال لرجال الدين في النجف , الا انهم لم ينجحوا في ذلك , مؤكدا ان الملائي يعلم علم اليقين ان قبوله اي مبلغ من الانكليز سوف يؤدي الى هبوط سمعته بين الناس , وان الملائي يعتقد انه كلما زاد ابتعاده عن الانكليز واعلان بغضه لهم ازدادات مكانته بين الناس وكثر المعحبون والمقلدون له . واما بعض رجال الدين الذين تعاونوا مع الانكليز وقبلوا ببعض المناصب معهم , فيطلق عليهم العامة تهكما تسمية (علماء الحفيز) . والمفارقة ان العامة يحتقرون رجل الدين اذا تعاون مع الانكليز , الا انه يقدرون الوجهاء والاعيان والتجار اذا تعاونوا مع الانكليز ويحترمونهم , على اعتبار ان رجل الدين يجب ان يكون منهكما بالعبادة ولايدنس نفسه مع اقذار الدنيا .
ادرج الوردي نقطة مهمة في التاريخ السياسي والاجتماعي في العراق , وهو ان الافندية والملائية قد حصل بينهم تعاون في مواجهة الانكليز والتحريض عليهم . فالافندية – الذين جلهم من اهل السنة – كانوا قد تعاونوا مع الملائية الشيعة , واتحدوا في مواقفهم في تعزيز الحركة الوطنية والتسامي عن الامور الطائفية , بل ان الافندية اعتبروا رجال الدين الشيعة هم قادة الحركة الوطنية , وهم مجرد تابعين لهم , الا ان التعاون بينهم لم يستمر طويلا بعد الثورة , فقد انضم الافندية الى الدولة العراقية وطلبوا من الملائية التوقف عن النضال , قائلين لهم ان : الغاية من النضال قد حصلت , وهو قيام حكومة عراقية مستقلة , ولكن الملائية رفضوا ذلك , واعتبروا الحكومة غير مستقلة , وان الانتداب هو نوعا من الاستعمار غير المباشر , وانتهى التحالف كليا بنفي المجتهدين الشيعة من العراق الى ايران عام 1923 .
كما بين الوردي ان الوعود البريطانية للعراقيين دورا في تزايد الوعي السياسي والتطلع نحو الاستقلال , وكان اولها بيان الجنرال (مود) عندما دخل بغداد عام 1917 عندما اعلن (اننا جئناكم محررين لافاتحين) , ورغم ان الانكليز اطلقوا هذه العبارة للنيل من الترك والدعاية للانكليز وتخليص العراقيين من الدولة العثمانية التي كانت تسومهم الذل والعبودية والظلم , الا انها لم تعلم انها ستستخدم كسلاح ضدها بعد الحرب . فيما كان الوعد الاخر هو التصريح البريطاني الفرنسي الذي صدر في السابع من تشرين الثاني عام 1918 الذي اكد (ان الغاية التي ترمي اليها كل من فرنسا وبريطانيا العظمى في خوض غمار الحرب في الشرق , من جراء اطماع المانيا , هى تحرير الشعوب التي طالما رزحت تحت اعباء استعباد الاتراك تحريرا تاما نهائيا , وتاسيس حكومات وادارات وطنية تستمد سلطتها من رغبة السكان الاصليين) . واعترفت المس بيل ان التاثير الذي احدثه التصريح في الراي العام العراقي قد حصل بواسطة الافندية , وازداد بعد ان اعلنت وكالة (رويتر) ان الشريف فيصل ذهب الى مؤتمر الصلح ممثلا عن الدول العربية .
استعرض الوردي في الفصل الرابع تاثير الدعايات التي وفدت من الخارج على قيام ثورة العشرين والترويج للنزعة الاستقلالية في العراق , وقسمها الى اربع دعايات :
اولا : الدعاية من سوريا : كان للحكومة العربية في سوريا التي تزعمها الامير فيصل بن الحسين عام 1919 دورا كبيرا في استنهاض النزعة الثورية في العراق , من خلال الدعاية والاعلام , وخاصة الصحف الوافدة من هناك . كما ان السوريين اخذوا يتذمرون من كثرة اعداد العراقيين هناك وتسنمهم الكثير من المناصب الكبيرة – وخاصة الضباط الشريفون – الامر الذي جعل العراقيين يطمحون ان يكون لهم دولة مستقلة مثلما حصل في سوريا .
ثانيا : الدعاية من تركيا : نشطت الدعاية التركية في منتصف عام 1919 بعد تسلم كمال مصطفى اتاتورك القيادة هناك , وتحقيقه انتصارات كبيرة , وانقاذ تركيا من الهزائم الكبيرة التي تعرضت لها بسبب الحرب العالمية الاولى , فانتعشت الامال بعودة الاتراك لحكم العراق عند الموالين والمحبين للدولة العمانية .
ثالثا : الدعاية من ايران : اخذت الدعاية الايرانية ضد الانكليز تنساب بهدوء للعراق من خلال العتبات المقدسة . فقد زادت النقمة على الانكليز بعد الثورة البلشفية في روسيا , وقيامها بالغاء امتيازات القياصرة في ايران , الامر الذي حفز على مطالبة الانكليز بالغاء امتيازاتهم ايضا .
رابعا : الدعاية البلشفية : بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 بقيادة الزعيم الشيوعي لينين , كان من اهم اهدافهم التي طرحوها من اجل الدعاية لحزبهم وحكومتهم هو مكافحة الاستعمار , فصاروا يدعمون حركات التحرر في تركيا والعراق وايران وغيرها , من خلال دعاياتهم ومنشوراتهم التي تصل للعراق .
اهتم الفصل الخامس بالتحولات التي حصلت في اعقاب بروز او تغيير ثلاث اشخاص في العراق , وهم احلال الحاكم ويلسون محل السير برسي كوكس , والجنرال هالدين محل الجنرال ماكمون , وتسلم المرجعية للشيرازي بعد موت السيد كاظم اليزدي . فالسير برسي كوكس كان يتولى منصب الحاكم السياسي العام في بداية احتلال العراق , ونقلت خدماته الى ايران كوزير مفوض في نيسان 1918 , وحل محله بالوكالة ارنولد ويلسون الذي كان ضابطا في الرابعة والثلاثين من عمره . وقد نظم ويلسون الجهاز الاداري العراق افضل تنظيم , وكان يحمل مايطلق عليه (رسالة الرجل الابيض في تمدن الشعوب المتخلفة) , واراد تقليد اللورد (كرومر) في مصر والاصلاحات التي قام بها . وكان ويلسون يرفض اعطاء وعود الاستقلال للعرب التي يطرحها البعض من امثال لورنس قائلا (ان العرب عندهم الشعر بلا ريب وليس عندهم العمل) , معتبرا العراقيين من الشعوب المتخلفة (وغير قادرين على حكم انفسهم بانفسهم , ووجب تدريبهم على حياة الحرية قبل منحهم اياها , وان تؤسس فيه ادارة بريطانية حازمة على طراز ماحصل في الهند) وقد ادت سياساته الى الاصطدام مع الاهالي وزعماء الحركة الوطنية ورجال الدين تطور الامر الى اندلاع ثورة العشرين .
والتغيير الثاني هو نقل القائد العام للقوات الانكليزية في العراق الجنرال (ماكمون) الى الهند في اواخر عام 1919 , وتعيين الجنرال (هالدين) محله , الذي وصل الى بغداد في اذار 1920 – اي قبل الثورة بثلاث اشهر – وقد حصلت خلافات واتهامات متبادلة بين الحاكم السياسي ويلسون وبين الجنرال هالدين حول اساب الثورة , واخذ كل منهما يحمل الاخر مسؤولية اندلاعها وانتشارها .
واما التحول المفصلي الثالث فهو وفاة المرجع السيد كاظم اليزدي في النجف عام 1919 وقدوم محمد تقي الشيرازي من سامراء لكربلاء . فقد كان اليزدي من الرافضين لمواجهة الانكليز والاصطدام بهم , فيما كان الشيرازي من الناقمين على الانكليز والمؤيدين لمواجهتها بالطرق السلمية اولا والعسكرية ثانيا , وكان المحور بين رجالات الحركة الوطنية . وقد زار الحاكم السياسي ويلسون الشيرازي في كربلاء من اجل التفاهم معه حول بعض القضايا , واراد التقرب منه من خلال تسليم سدنة الامامين العسكريين في سامراء الى رجل شيعي بدل المتولي السني , الا ان الشيرازي رفض ذلك . وهذا التشدد من قبل الشيرازي هو الذي ادى بالحاكم السياسي ويلسون الى وصفه (بالخرف ومحاط بعصابة من طلاب المال الذين ليس لديهم ضمير) . وفيما اتهمت المس بيل ابنه محمد رضا (بالسيطره على ابيه العجوز والحصول على الاموال من الاتراك والتعاون مع البلاشفة) .
الفصل السادس اختص بأهم موضوع في تاريخ الحركة الوطنية والنزعة الاستقلالية وهو قيام الانكليز بعملية الاستفتاء في العراق لاختيار شكل الحكومة التي يريدون . فقد وصلت برقية من لندن بتاريخ 30 من تشرين الثاني 1918 الى الحاكم السياسي ويلسون اكدت فيه : ان القصد من التصريح البريطاني الفرنسي هو ازالة الريبة من التي اثيرت لدى سكان سوريا تجاه نية فرنسا , وان المطلوب من التصريح ان تساعد بريطانيا من جانبها على تاسيس حكم محلي في المناطق التي حررتها , وطلبت البرقية بيان راي سكان العراق في النقاط الثلاث الاتية
1 . هل تفضلون دولة عربية واحدة تحت ارشاد بريطانيا تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية الى الخليج ؟
2 . هل ترغبون في ان يراس هذه الدولة رجل عربي من اولي الشرف ؟
3 . من هو هذا الرئيس الذي تريدونه ؟
وقد اكدت الحكومة البريطانية على اهمية المصداقية والنزاهة في الاستفتاء , الا ان ويلسون اراد العمل باي وسيلة للتاكيد على ان العراقيين يرغبون من تلقاء انفسهم بالحكم البريطاني المباشر , وابرق الى الحكام السياسيين بالالوية على ضرورة الحصول على الاراء المطلوبة التي يريدها ويدعو لها . وكان العراق مقسما انذاك الى تسعة الوية , والنجف تابعة لما يسمى منطقة الشامية والنجف , وقد اراد ويلسون البدء بالاستفتاء في مدينة النجف , لما لها من اهمية دينية عند باقي المناطق بالعراق , وان الحصول على نتيجة ايجابية لصالح الانكليز , يساهم بتاثيرها على باقي المناطق . وقد وصل ويلسون نفسه الى النجف من اجل ذلك , وعقد لقاء مع المرجع السيد كاظم اليزدي , ولم يطرح امامه قضية الاستفتاء . كما عقد لقاء اخر مع العديد من الشخصيات الدينية والعشائرية وطرح عليهم قضية الاستفتاء , وايد البعض الحكم البريطاني المباشر , فيما طالب اخرين بالحكم الوطني والاستقلال , ورفعت بهذا الشان عريضتين واحدة مع الحكم البريطاني المباشر والاخرى تريد حكومة مستقلة تحت رئاسة امير عربي .
وعقد في كربلاء التي كانت تابعة للحلة انذاك لقاءات متعددة حول الاستفتاء , وحصل ايضا خلاف بين الحاضرين , واستقروا على تاييد تعين احد انجال الشريف حسين لزعامة العراق , ورفعوا عريضة بهذا الشان . فيما رفع المؤيدون للانكليز عريضة اخرى تؤيد الحكم البريطاني المباشر . وكذا الامر في الكاظمية حيث طالب رجال الدين والوطنيين بحكومة عربية اسلامية يراسها احد انجال الملك حسين , فيما نظم بعض التجار وشيوخ العشائر مضبطة مخالفة اخرى . واما بغداد فرغم التحشييد البريطاني لها والتركيز عليها , الا انهم لم ينجحوا في الحصول على مضبطة جامعة لرايهم , وبعد فشل ذلك اخرج المندوبون مضبطة اكدت على اختيار دولة واحدة عربية يراسها ملك عربي مسلم , هو احد انجال الشريف حسين مقيدا بمجلس تشريعي وطني . واما باقي الالوية والمدن فقد حصل الانكليز عما يريدونه من الاستفتاء وهو الحكم البريطاني المباشر , وقد فرح ويلسون بنتيجة الاستفتاء , وقرر ارسال المس بيل الى لندن لكي تشرح للمسؤولين هناك الوضع في العراق .
اعتبر الوردي في الفصل السابع المخصص لنشاة الحركة الوطنية في بغداد , ان الاستفتاء كان هو الحافز لنشوء ما نسميه بالحركة الوطنية في العراق , وهى الحركة التي تبناها المعارضون للحكم البريطاني , واتخذوا فكرة الاستقلال . وان الجهود التي بذلها ويلسون واعوانه اثناء الاستفتاء لاقناع العراقيين بالحكم البريطاني المباشر , انتج ردة فعل لدى المعارضين جعلهم يطالبون بالاستقلال . كما ان المقاومة التي ابداها ويلسون واعوانه ضد اختيار احد انجال الشريف حسين ملكا على العراق , جعل المعارضين يصرون على هذا الاختيار , ويعتبرونه رمزا لحركتهم . اذ كان الافندية والملائية الذين تزعموا حركة المعارضة يذمون الشريف حسين وانجاله , ويعدونهم مارقين عن الاسلام لخروجهم ضد الدولة العثمانية , غير انهم تحولوا الى العكس من ذلك اثناء الاستفتاء , حيث صاروا اكثر حرصا على اختيار احد انجال الشريف لعرش العراق .
واعتبر الوردي بوادر ظهور الحركة الوطنية في بغداد وكربلاء . الاولى بتاثير الافندية , والثانية بتاثير الشيرازي وحاشيته – ولاسيما ابنه المرزا محمد رضا – ثم سرت عدوى الحركة بعدئذ الى المدن والمناطق الاخرى . وقد تمظهرت في بغداد من خلال تاسيس تنظيم (حرس الاستقلال) السري في شباط 1919 الذي يغلب عليه الطابع الشيعي , فيما اسس اخرون تنظيم او فرع لجمعية العهد السورية . وقد حصلت حلافات كبيرة اتهامات بالتخوين والعمالة بين اعضاء الجمعيتين , خاصة بعد ان اعلن العهديون قبلوهم المساعدة من بريطانيا للحصول على استقلال العراق . وقد امتد تنظيم (حرس الاستقلال) الى الفرات الاوسط بعد انضمام السيد هادي زوين للتنظيم , وهو من وجهاء (الجعارة) وسادتها , الذي اجرى اتصالات ولقاءات متعددة مع زعماء الحركة الوطنية في بغداد , واهمهم محمد جعفر ابو التمن ومحمد الصدر ودعاهم للتواصل مع الشيرازي .
بعد ذلك اعلن مجلس الحلفاء الاعلى المنعقد في سان ريمو في ايطاليا في نيسان 1920 نظام الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين , والفرنسي على سوريا ولبنان . وقد استبشر ويلسون بهذا القرار لانه يتوافق مع اراءه في الوصاية البريطانية على العراق , واوعز بنشره في الصحف العراقية , الا ان الحركة الوطنية استغلت هذا القرار لتكثيف اعمالها في التحريض على الانتداب الذي اعتبرته شكلا من اشكال الوصاية والاستعمار .
يرى الوردي في الفصل الثامن ان الحركة الوطنية في كربلاء نشات على اثر الاستفتاء , مثلما نشات في بغداد . وكان لولبها وقطب رحاها المرزا محمد رضا ابن المرجع الشيرازي , الذي اسس جمعية سرية في كربلاء باسم (الجمعية الاسلامية) انضم لها العديد من رؤساء ومثقفي كربلاء وسادتها اهمهم المصلح المعروف هبة الدين الشهرساني . وكان هدفها رفض الحكم الانكليزي والمطالبة باستقلال العراق واختيار ملك مسلم له . وقد اصدر الشيرازي فتواه الشهيرة لتاييد عمل وهدف الجمعية وهو (ليس لاحد من المسلمين ان ينتخب ويختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين) . واعتبر الوردي الفتوى عاملا مهما في تطوير الوعي السياسي في العراق , فهى قد جعلت الدين والوطنية في اطار واحد , وهذا امر لم يكن الناس يعرفونه من قبل , واصبح الوطني متدينا , والمتدين وطنيا , وانتشر الحديث المنسوب الى النبي وهو (حب الوطن من الايمان) .
اعتبر الوردي في الفصل التاسع فكرة الثورة المسلحة ضد الانكليز وافدة من الفرات الاوسط . فقد اكد ان رجال الحركة الوطنية في بغداد وكربلاء لم يكونوا في بداية امرهم يفكرون القيام بثورة مسلحة على الانكليز , بل كان تفكيرهم متجها الى المطالبة السلمية بتحقيق ما وعد به الانكليز من الحرية والاستقلال , وان فكرة الثورة المسلحة لم تظهر الا لدى بعض سادة العشائر ورؤسائها في الفرات الاوسط – وخاصة في المشخاب – فهم اول من نادى بها , ثم صارت دعوتهم تنتشر شيئا فشيئا , مما ادى اخيرا الى اندلاع شرارة الثورة في الرميثة . وقد بين الوردي ان عشائر الفرات الاوسط تتميز بخصائص جعلتها تبنى فكرة الثورة المسلحة قبل الاخرين وهى :
1 . ان الفرات الاوسط هو المدخل الثاني للعراق بعد منطقة الجزيرة , بالنسبة للقبائل البدوية القادمة من الصحراء , وهى بهذا لاتزال تحافظ على الكثير من القيم البدوية من حيث الاعتزاز بالنسب والكرامة الشخصية وشدة التمسك بالعصبية القبلية والدخالة والثار وغيرها .
2 . ان الفرات الاوسط كان منذ صدر الاسلام – وما زال حتى الان – مركز التشيع في العالم الاسلامي . فقد كانت الكوفة المركز الاول للتشيع , وان التراث الشيعي فيه نزعة قوية الى التفلسف والجدل والنقد السياسي .
3 . النزاع الهائل بين عشائر الفرات الاوسط على الاراضي الزراعية بسبب الهجرة التي تحصل من تغيير نهر الفرات لمجراه , دور كبير في تدعيم القيم البدوية وتنمية قدراتها على القتال .
4 . ان الاراضي الزراعية في المشخاب وغيرها , قد اختصت بزراعة الرز , وصارت من اغنى المناطق الزراعية في الدولة العثمانية كلها , حتى وصفت في احدى التقارير البريطانية عام 1918 بانها (حديقة العراق) لانها تنتج مايقارب اربعين بالمائة من مجموع انتاج الرز في العراق , الامر الذي ادى الى ظهور العديد من رؤساء المنطقة وهم يملكون ثروات كبيرة , مما جعلهم قادرين على التفكير بالسياسة .
5 . تعيش بين عشائر الفرات الاوسط عائلات علوية مشهورة تلقب بالسادة . والسادة – كما هو معروف – موجودين في جميع الارياف الشيعية , الا انهم في الفرات الاوسط يملكون الاراضي الواسعة والثروات الكبيرة والمكانة الاجتماعية الكبيرة . وان سبب الوجود الكبير للسادة في الفرات الاوسط هو الحاجة الشديدة لهم لوقف القتال والنزاع بين العشائر نتيجة الصراع الهائل على الاراضي , والتوسط بين العشائر للصلح . وكان للسادة دور كبير وفعال في ثورة العشرين , لما لهم من مكانة دينية واجتماعية متميزة , حيث انهم يضطرون لمجاراة الاخرين في دعواتهم للجهاد في سبيل الله , والا فانهم سيفقدون مكانتهم الدينية في نظر العشائر . وقد اكد الوردي ان اول من نادى بالثورة المسلحة بالفرات الاوسط هو السيد علوان الياسري , وان اول من ايده في ذلك هو السيد محمد رضا الصافي . كما ايد هذه الدعوة المسلحة العديد من الافراد امثال السيد قاطع العوادي والشيخ شعلان الجبر ال ابراهيم والشيخ عبد الواحد سكر والسيد نور الياسري – ابن عم علوان الياسري- الذي يعد من اوائل من انضموا الى الثورة ودعمها رغم عمره الذي قارب السبعين عاما .
بعد ذلك حصلت احداث مهمة عززت الطريق نحو الاستقلال والحكم الوطني من جانب , والثورة على الانكليز من جانب اخر . فالحدث الاول هو ايفاد محمد رضا الشبيبي الى الحجاز , وهو يحمل مضابط الى الشريف حسين بن علي , من اجل ترشيح احد انجاله ملكا على العراق . فقد عقد اجتماع في النجف بين السيد علوان الياسري ونور الياسري وعبد الواحد سكر وتداولوا امر ضرورة ارسال المضابط للحجاز , وغادر الشبيبي النجف وصل الى الشطرة , واخذ معه ابراهيم اطيمش كرفيق الى الحجاز , كما حمل معه رسالة من المرجع محمد تقي الشيرازي . والثاني : هو انعقاد اجتماع سري في دار السيد علوان الياسري في النجف في نيسان 1920 حضره عددا من شيوخ العشائر ورجال الدين ابرزهم الشيخ علي الشرقي والمرزا محمد رضا الشيرازي . وقد طرحت في الاجتماع فكرة الثورة المسلحة على الانكليز , وهى اول مرة تطرح هذه الفكرة في جمع من رجال الدين وشيوخ العشائر , وقد ايدها البعض , فيما انكرها البعض الاخر . وكان ابرز الرافضين لها الشيخ خيون العبيد (شيخ عشيرة العبودة في الشطرة) بدعوى ان العراقيين مختلفين , وليسوا على راي واحد . وضرب مثلا على ذلك بعشائر المنتفك والغراف , وكيف يعانون من التنازع والفوضى والتحاسد . ويبدو ان كلام الشيخ خيون اثر بالحاضرين , وتم الاتفاق على تاجيل الثورة في الوقت الحاضر , والتمهيد لها من خلال التوعية الوطنية والدينية , وتاسيس جمعية باسم (الجامعة الاسلامية) يراسها المرزا محمد رضا الشيرازي , يكون مركزها في كربلاء , وتفتح فروع في كل انحاء العراق . كما عقد اجتماع اخر في ايار 1920 بمناسبة الزيارة الشعبانية في دار ابو القاسم الكاشاني في النجف , حضره ايضا العديد من رؤساء العشائر ورجال الدين , تداول الحاضرين ايضا فكرة الثورة المسلحة ضد الانكليز , واقناع المرجع الشيرازي بها , واتفقوا على اختيار وفدا لمقابلته واقناعه ضم عبد الكريم الجزائري ونور الياسري وعلوان الياسري وعبد الواحد سكر وجعفر ابو التمن . وقد تردد الشيرازي بقبول هذه الفكرة بدعوى عدم التكافوء بين العشائر والانكليز , وخشى من الفوضى واختلال النظام , الا ان الحضور تعهدوا له بالامن والنظام والمواجهة فقال لهم (اذا كانت هذه نياتكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم) . وقد فسر محمد رضا قول والده بانه افتاء بالثورة على الانكليز .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *