اسم الكاتب : علي ثويني
كتب المختص في علم النفس،والمترشح للإنتخابات، الدكتور قاسم حسين صالح مقاله: (الطائفية والعشائرية واللاأبالية،هي الفائزة!)،ردا على خيبة أمله في المشاركة والنتائج. ومايهمنا هنا هو رايه بأهل الخارج واصفا أياهم:(تفيد الارقام بان عدد الذين شاركوا في الانتخابات من أهل الخارج ،لم يصل الى 170 الفا..واذا استثنينا مليونا منهم لصعوبات حالت دون مشاركتم فانه يبقى بحدود ثلاثة ملايين عراقي في دول العالم لم يصوتوا..ما يعني انهم طلقوا العراق وقطعوا وتر الانتماء للوطن،وان انتماءهم صار للوطن الذي يعيشون فيه..وان نتائج الانتخابات الحالية ستجعل الباقين منهم يطلّقون العراق بالثلاث). وقد صدق بإحصاءه حيث ان لم يشارك من اهل الخارج إلا اقل من خمسهم . وهذا النص المتحسر،يذكرني بالحملة التي تبناها سعد البزاز بعيد الإحتلال وسقوط البعث مظهرا التناشر بين(ثقافتي الداخل والخارج)، وموحيا بان ثمة شرخ ثقافي ونفسي لمن تحمل الويل والحصار ،ومن “هرب من المسؤولية”.وهذا كان من أمهات الدجل في الخطاب البعثي الغامز ، في حالة من التظلم والإفتراء، باكيا بان اهل الخارج يرومون خطف الوطن من أهله وسدنة مصالحه!.وقد لمس ذلك جزء من الحقيقة حينما جلب الأمريكان شخوصهم، وعينوهم عنوة،وجلهم من “اهل الخارج”.
بيد أن الدكتور قاسم تناسى بان المهاجرين طبقات، رغم إيماننا بأن الظلم البعثي قد عم وشمل، ولم يميز، لكن من الجلي الصريح بأن من هرب في السبعينات كان هاربا سياسيا ومن هرب بالتسعينات كان بسبب الحصار والفاقة، و عمليا فقد هاجر لأسباب (إقتصادية). ومن الطريف ان تكاثر الهزيع بعد سقوط البعث 2003،قد خلق حالة من لقاء القط والفار وجها لوجه . فقد تلاقى في السويد البعثي الهارب اليوم مع الشيوعي الذي سبقه بعقدين هاربا منه،على مبدأ أغنية ناظم الغزالي(واخير أثنينا نشيب سويه)، وغنى الجميع معا : (تتلاقى الوجوه وأعرف سأحاجيك)!. وهكذا لم يعد ثمة قانون ينطبق على اهل الخارج كما أراد الدكتور قاسم في تعميمه، رغم أن عالم النفس حري أن يؤمن بالذاتية البشرية.
كتب الفقيه الحنبلي البغدادي فصيح الحيدري(1820-1882) في كتابه الغرائبي: (عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد.)موضحا بان جل العشائر العراقية تشيعت خلال فترة لاتتعدى القرنين ونصف، منذ كتابته لنصوصه في منتصف القرن التاسع عشر،اي حوالي منذ العام 1600م، وأعطى اسماء كل عشيرة ومتى تشيعت. ولم يحلل الرجل السبب، ففاته أن يبين أن العراقيين تشيعوا نكاية بالعثمانيين، الذين ساموهم العذاب وأبتذلوا نوعهم وأذلوا بغداد عاصمتهم. وهذا يوحي بان العراقي عقله(عنودي) ،فهو يعمل عكس ما يملى أو يقسر عليه ، حتى لو أضاع الكثير بسبب ذلك. وحقا أمسى العراقيون تابعين للدولة العثمانية من الدرجة الرابعة أو الخامسة، وسبقهم في المنزلة حتى الشاميين الذين تملقوا التركي ،وكسبوا منه ،فكانوا اكثر “مفهومية”. وحتى هذا الأمر لم ينطبق على كل فئات العراقيين، حيث ان أهل الموصل آثروا المهادنة والقبول وحصد الإمتيازات، فكسبوا من العثمانيين الكثير،فكان جل ضباط الدولة وموظفيها منهم ، على عكس أهل الوسط والجنوب، الذين ساروا عكس التيار بعنودية متناهية، على فطرة موروثة، ورفضوا الإنصياع لمبدأ (من يتزوج أمي يصير عمي) او (اليد التي لاتقدر تلويها قبلها)، فكان تبديل مذهبهم أسهل عليهم من تصريحهم الرفض للسلطان.
ويبدوا أن هذا الأمر،لم يقرأه الدكتور قاسم للأسف، حيث ان إزدراء سلطة “المنطقة الخضراء” لأهل الخارج، قد جعلهم يحيون في داخلهم تلك الخصلة القادمة في مورثاتهم، فرفضوا المشاركة بالإنتخاب، وهو اضعف الإيمان، ولكنهم لم ولن يتخلوا عن عراقيتهم البته كما يحلوا للدكتور قاسم أن يفرغ حنقه عليهم. وهكذا فقد تشفى اهل الخارج بالسلطة، التي راهنت على مشاركتهم دون أن تقدم خدمة او تسبغ فضل عليهم. فالدولة العراقية لاتملك حتى اليوم إحصائية عن عدد المهاجرين،ولاسيما بتجمعات مليونية كما إيران والسويد وبريطانيا.ولم تضع الدولة العراقية اي خطة أو آلية لأحتواء هؤلاء وإرجاعهم وإدماجهم،ولاسيما من يحمل منهم مؤهلات علمية عالية.
سبق لي أن طرحت الأمر في ندوة أقامها الملحق الثقافي العراقي في لندن الدكتور موسى جواد عزيزالموسوي، الذي نقل شفاهيا عن المالكي، بأن من يريد أن يعود للعراق فلياتي ومن لايريد فلا حاجة لنا به!. وهنا أخبرت الدكتور الموسوي، بأن ما يقوله هو بالضبط(بيع بطيخ) حينما تجرد عن اي غطاء أخلاقي أوعلمي لعملية في غاية الاهمية،ورغم نقدنا للبعثيين لكنهم وضعوا حينها في بداية السبعينات قانون(الكفاءات) الذي استقطب الكثيرين منهم وبنى منظومات علمية. فسألت الدكتور الموسوي إن كان يعلم هو شخصيا، ومن موقعه كملحق ثقافي عن عدد حملة الشهادات العليا وإختصاصهم الموجودين في بريطانيا وحدها، فأعلن جهله بالأمر، بما يدلل السقم في اداء الدولة العراقية وسفاراتها وخارجيتها، التي لم نعد نفهم بأنها (لنا أو علينا)، وقد وجهت هذا السؤال لها قبل تسعة سنوات، ولم ياتني جواب بعد.
أن إستخفاف المشروع الأمريكي من خلال “منشاره، بـ”النشارة” العراقية، قد قوبل بإستخفاف مضاد وابلغ ،من جلنا أهل الخارج، فلا مشروع لعودتنا ، ولا قناعة بما يجري للوطن، فلا أمان ولا رفاهية، ولاقيمة للعراقي، بل محض سلسلة مهازل ونزيف مستمر، لا يمكن الوقوف حيالها إلا بالرفض والتشفي . واتسائل أي رد فعل يرجاه الدكتور قاسم المتشدق بالنظريات النفسية التي لاتجدي نفعا حينما تحين ساعة الحقيقة بمقاطعتنا للإنتخابات،واقولها له بأننا سنقاطع كل إنتخابات تقزم الوطن والمواطن العراقي وتبيعه بالقطاعي وتذله وتزدريه.
إن العراقي الحقيقي ياصديقي الدكتور،و الذي ترك الجمل العراقي بما حمل وآثر السلامة في الغربة القاسية، هو سليل (امارغي) وحامل شعار الحرية الرائد السومري، فلايرضى الهوان أويمارس الإفتراء أو يتشدق بإنتماء وطني، ويروج في الحين نفسه لأقطاب التشرذم القومي “الكردي مثلا” ،رغم يقينيته بتناشزهما المطلق . وفي “تحليل للخطاب” بنصك الطافح بالغريزة ، أجدك تنتقد الطائفية والعشائرية، حصرا دون إنتقاد للشقاق القومي، وأظن أنك لاتريد أن تخسر صديقك الأربيلي المسبغ بالفضل وفتات المكاسب. نحن يادكتورنا المبجل ، تركنا العراق مجبورين لامجبولين منذ اربعة عقود ، وأعدك باننا سنبقى سدنة وسد ثقافته الأخير “بلا مثالية ولا رومانسية”، الحمد لله ، لم تغرينا كراسي برلمان فاشل ،ولا “نتقشمر بجكليته” حمودي، أو تنطلي علينا (شيم البدوي واخذ عباته)، ولنمت مثل نخيلنا واقفين.
نعلم نحن أهل العراق ، بأن الإنتخابات كانت ومازالت مباعة مشتراة في أسواق النخاسة، وان الأرقام والنسب التي ستعلن هي جاهزة منذ مدة ، “فبركت” هناك في الكواليس الأمريكية. فقد سالنا يوما الدكتور محمود المشهداني حينما قابلناه عام 2009 في الأردن ، وأجابنا بصراحته المعهودة، بأنه سيكون عضو في البرلمان القادم 2010، وذلك من خلال إشعاره المسبق من قبل الأمريكان بأنه وجماعته سيحصلون على 44 مقعد في البرلمان،وحري ان يحضر نفسه لتلك المهام!.
وهنا أتذكر حينما عملت مع اليونسكو في مشروع ترميم ضريح الإمامين العسكريين في سامراء(ع)، بأن تركيا دعت مجموعة من أهل سامراء لـ(دورة عمل) ، وبعد عودتهم سالت أحد المهندسين الذين يعمل معي وكان مع الوفد، فأخبرني بإختصار: بأن الاتراك علمونا كيف نزور الإنتخابات.وهذا ما يحدث اليوم بالتمام والكمال،فبين فضائح للتزوير قام بها الجميع، وشبهات تحوم حول الهيئة (المستقلة جدا) للإنتخابات، وموالاتها المكشوفة لسلطة المالكي . وما لم ينطلي هي مصروفات واهية وفساد إداري ، ومبالغ طائلة ذهبت لجيوب لاتملئ ونفوس شرهة لاتقنع، بحجة العملية الإنتخابية التي كان يمكن “من باب أولى” ، ان تذهب لسد رمق او ستر عورة أو بناء سقف فوق رؤوس فقراء العراق.
وهكذا فإن إمتعاضنا من المشاركة بالإنتخابات و”بصاقنا” على العملية برمتها، جاء تشفيا ورفضا لوجوه كالحة أعادت مثل الحرباء تسويق نفسها، فنفس الوجوه التي صادرت الواطن وسرقت المواطن، هي عينها من ترشحت اليوم، فـ(مالكي وبرزاني وطلباني وحكيم وعلاوي وجعفري ونجيفي وصدر..الخ)،باقون.. فاي أمل لنا بوطن دون حرامية ولا جهلة مكرسين للطائفية والعنصرية.
لا أعرف إن كان الدكتور قاسم “عالم النفس” قد سمع بـ(متلازمة ستوكهولم) التي فحواها تقمص الضحية روح الجلاد، فتصبح مدافعة عنه،مسبحة بحمده. وهذا ما يدعونا النصح بمراجعة حتى المسلمات وفضح مفاصل العطب والبحث عن السبب والمسبب قبل النتيجة .حري الكشف عن بوطن اللاوعي والإعتراف بنزعة الدونية والتبعية المتلبسة في النفس العراقية التي هزجت للشيخ يوما : (قدام الشيخ اذبح روحي) والشيخ يسومهم العذابات. حري أن نحلل ذواتنا والإعتراف ليس بالهزيمة بصناديق الإنتخاب الكاذبة،بل بالقيم والمبادئ التي لم يعد لها مكان في عراق يغرق. قال تولستوي في الحرب والسلام (ماتبنيه الأخلاق في مئة عام ، تخسره الحرب في عام واحد) وهذا هو السبب في ان الأمريكان مصرون على ديمومة الحرب في العراق منذ 1980 ، كي ننفظ آخر قطرة من حياءنا الذي يكاد أن يزول اليوم!.