الكاتب : رياض سعد
يخطئ من يظن ان بلاء الايتام ومشكلة اليتامى تنحصر بالأكل والشرب والملبس والمسكن ؛ بل في مراعاة مشاعرهم العاطفية وأحاسيسهم القلبية وتلبية متطلباتهم المعنوية والاشراف على تربيتهم وتنشئتهم الاخلاقية ؛ وهذا هو الأهم ، لانه ذو تأثير كبير جدا في بناء مستقبلهم وحياتهم ، فاليتيم إنسان كغيره ، يجب ان يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية ، اذ ينبغي ان يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك اي طفل آخر في حضن ابيه وامه … ؛ فهو ليس حملا يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح ، ويعود عند الغروب ، بل هو إنسان يجب – مضافا إلى الرعاية الجسدية – ان يحظى بالرعاية الروحية ، والعناية العاطفية ، وإلا نشأ قاسيا مهزوما او حزينا كئيبا ضعيفا ، او عديم الشخصية ، بل وحاقدا خطيرا ومجرما شريرا .
وفي هذه المقالة سنسلط الاضواء على البيت الشعري المنسوب للأمام علي حاكم العراق وحكيمه :
ما إن تأوّهت من شيء رزئت به *** كما تأوّهت للأيتام في الصغر
قد ماتَ والدُهم من كان يكفلُهم *** في النائباتِ وفي الاسفارِ والحضرِ.
إنها فتاة يتيمة استشهد أبوها في معركة صفين بين يدي حاكم العراق واسد بلاد الرافدين الامام علي وترکها ، وأخاها يتيمين صغيرين في كفالة أمهما الفقيرة، وقد اصيبت عينيهما أثر مرض الجدري الذي سلبهما الرؤية والنظر بصورة واضحة ، ولما رآهما الامام علي تأوه لحالهما، ومسح بيده على عينيهما، ودعا لهما، فارتدا اليهما وضع عينيهما كما كانتا قبل المرض كما قيل ، وتكفلهما إلى آخر حياته، ومن بعده تكفلهما ولده الإمام الحسن … ؛ واليكم نص الرواية التاريخية بالتفصيل : عن عبد الواحد بن زيد قال : خرجت إلى مكة ، فبينما أنا أطوف، فإذا أنا بجارية خماسية وهي متعلقة بستارة الكعبة، وهي تخاطب جارية مثلها، وهي تقول : لا وحق المنتجب بالوصية، الحاكم بالسوية، الصحيح البينة، زوج فاطمة المرضية ما كان كذا وكذا !.
فقلت لها: يا جارية من صاحب هذه الصفة ؟!.
قالت: ذلك والله عالم الأعلام، وباب الأحكام، وقسيم الجنة والنار، وربانی هذه الأمة، ورأس الأئمة، أخو النبي ووصيه، وخليفته في أمته، ذلك مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب … .
فقلت لها: يا جارية بما يستحق عليٌ منك هذه الصفة ؟!.
قالت: كان أبي والله مولاه، فقتل بين يديه يوم صفين، ولقد دخل يوماً على أمي، وهي في خبائها، وقد ركبني وأخاً لي من الجدري ما ذهب به أبصارنا، فلما رآنا تأوه وأنشأ يقول :
ما إن تأوّهت من شيء رزئت به *** كما تأوّهت للأيتام في الصغر
قد ماتَ والدُهم من كان يكفلُهم *** في النائباتِ وفي الاسفارِ والحضرِ.
ثم أدنانا إليه، ثم أمرَّ يده المباركة على عيني، وعيني أخي، ثم دعا بدعوات، ثم رفع يده، فها أنا والله أنظر الجمل على فرسخ … ؛ فحللتُ خريطتی فدفعت إليها دينارين بقية نفقة كانت معي … ؛ فتبَسمتْ في وجهي، وقالت : مَه، خلفنا أكرم خلف على خير خلف، فنحن اليوم في كفالة ابي محمد الحسن بن علي … . (1)
ثم قالت اتحب عليا ؟!.
قلت: أجل.
قالت: أبشرْ فقدْ استمسكتَ بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
قال: ثم ولت وهي تقول:
ما بُثَّ حبُ عليٍّ في ضمير فتى *** إلا له شهدت من ربه النعمُ
ولا له قدمٌ زلّ الزمان بها ***إلا له ثبتت من بعدها قدمُ
ما سرّني أنني من غير شيعته *** وأنّ لي ما حواه العُربُ والعجمُ.
ومما جاء عن الاصبغ ابن نباتة انه قال : لما سمع الايتام بجرح الامام علي ووصية الطبيب له بان يتناول اللبن … ؛ رأيت الايتام وقد صفوا امام بيت الامام علي , ويقولون هذا لأبينا علي وعندما خرج الامام الحسن يتفقدهم رأى احد الايتام بيده اللبن وهو يقول باكيا : لقد ارسلتم لنا اللبن خذوا اللبن وارجعوا ابونا علي … ؛ وقد ذكر الحَكَم : “شهدت عليا أتي له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى، وقال: ذوقوا والعقوا، حتى تمنيت أني يتيم، قسمه بين الناس وبقي منه زق فأمر أن يسقاه أهل المسجد”.
ومن اخر وصايا حاكم العراق الاسطوري الامام علي وهو على فراش الموت : (( الله الله في الايتام فلا تغبوا افواههم ولا يضيعوا بحضرتكم )) و كان يقول : “ظلم اليتامى والايامى ينزل النقم ويسلب النعم”… ؛ كما أنه يأمر برعاية الأيتام النفسية فقد روي عنه : “ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على راس يتيم ترحما له الا كتب الله له بكل شعره مرت يده عليها حسنة”.
الا ان الحكام المجرمين والولاة الجلادين والعملاء المنكوسين الذين حكموا بلاد الرافدين بعد افول نجم الحكومات العلوية والشيعية العادلة ؛ عاملوا ايتام العراق بالقسوة والظلم والتهميش , اذ لم يكتف الاعداء والعملاء بإزهاق ارواح العراقيين الاصلاء وقطع رؤوس الاحرار ؛ بل امعنوا بظلم الايتام والاساءة الى يتامى العراقيين الاصلاء وظلمهم وحرمانهم من ابسط الحقوق ؛ فطوال 83 عاما من حكم الحكومات الهجينة الطائفية العنصرية , عمل الاعداء والعملاء على تهميش وافقار رجال الاغلبية والامة العراقية ثم الزج بهم في الحروب العبثية والمعارك الوهمية , ومن بقى منهم رموه في غياهب السجون الرهيبة وغرف التعذيب المرعبة ؛ حيث القتل بالجملة , و بمرور الايام ارتفعت وتيرة الاجرام الطائفي والارهاب البعثي حتى امتلأت مدن وقرى وصحارى العراق بالمقابر الجماعية والمعتقلات السرية ؛ ولك ان تتصور مصيبة اطفال العراق فضلا عن الايتام , اذ كان اباءهم بين نارين , نار الحروب والمعارك ونار التعذيب والاعدامات والاعتقالات , لذا تلاحظ ان اغلب اطفال العراق حرموا من الحنان الابوي والرعاية الابوية طوال سنوات عجاف أحرقت الاخضر واليابس , وأثرت تأثيرا سلبيا على تربية الاطفال ونشأة الايتام .
وبعد ان من الله على الاغلبية والامة العراقية بسقوط عهد الحكومات الحاقدة عام 2003 , هبت شراذم البلدان العربية والاسلامية الطائفية وجاءت الحركات التكفيرية والتنظيمات الارهابية بمساعدة ازلام صدام و زبانية البعث وجلادي الفئة الهجينة الى العراق , وشنوا حملات شعواء , وارتكبوا الاف الجرائم المرعبة , ونفذوا الاف العمليات الارهابية والتفجيرات الوحشية وطوال سنوات عديدة , مما اسفر عن سقوط مئات الالاف من الشهداء والضحايا من ابناء الاغلبية والامة العراقية , وكانت حصة الاغلبية من هذه الجرائم حصة الاسد , فأكثر من 80% من ضحايا الارهاب هم من العراقيين الاصلاء من ابناء الوسط والجنوب , وبالتالي ارتفع عدد الايتام الى الملايين , وعلى الرغم من هذه الظاهرة الخطيرة والمسؤولية الوطنية الملحة , تجاهلت الحكومات العراقية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها هذا الملف الخطير , او لم تقع بالدور المطلوب منها تجاه هؤلاء الايتام , ولم ينصفهم المجتمع ولم يحصلوا على حقوقهم الاستثنائية ؛ فأقصى ما فعلناه للشهداء اننا رفعنا صورهم فوق الاعمدة الكهربائية فقط لا غير , بينما كان الاولى بنا الاهتمام بعوائلهم ورعاية اطفالهم واكرام ذويهم , نعم وللإنصاف والتاريخ عملت مؤسسة الشهداء على تقديم الحقوق لهذه الشريحة المظلومة , وكذلك فعل بعض اخيار واحرار العراق كالسيد الوطني الغيور هشام الذهبي والذي احتضن الايتام وقدم لهم افضل الخدمات المادية والمعنوية , وانشأ لهم دار تعتبر من ارقى دور رعاية الاطفال والايتام وبشهادة المنظمات الدولية , وكذلك مؤسسة العين التابعة للمرجعية الدينية العليا ؛ الا ان المشكلة كبيرة واعداد الايتام في تزايد ؛ مما يحتم علينا حكومة ومواطنين , العمل الجاد من اجل احتواء هذه الظاهرة ومعالجة تداعياتها السلبية ورعاية هذه الشريحة رعاية خاصة .
…………………………………………………
- المصدر/ بحار الأنوار ج٤١ ص٢٢٠.