
فاضل حسن شريف
جاء في کتاب علم الإمام للشيخ محمد حسين المظفر: عن منابع علمهم: إن من تدبر الكتاب المجيد، و استقصى سوره، وجد فيه آيات عديدة تدل على أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، بل والأنبياء عليهم السلام كافة لا يعلمون الغيب، وليس لهم من العلم إلا ما علمهم العلام جل شأنه. والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ليسوا بأولى من النبي بذلك. إذ أقصى ما نقول في علمهم أنه ورثوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه انتهى إليهم ما كان يعلمه صلى الله عليه وآله من جميع العلوم. فمن تلك الآيات الكريمة قول تعالى: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ” (الانعام 59) فهذه الآية صريحة الدلالة بأن علم الغيب منحصر به سبحانه، ولا يعلمه أحد من خلقه، وعمومها يشمل حتى الأنبياء والأوصياء. ومن تلك الآيات البينات قوله تبارك وعلا: “وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ” (البقرة 255) فهذه وإن دلت على أنه تعالى يجوز أن يشرف عباده على علمه. إلا أنها دلت على أن العباد قاصرون عن الإحاطة بعلمه. ولو كان علمهم حاضرا لأحاطوا بعلمه سبحانه. ومنها قوله تعالى شأنه: “سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ” (الاعلى 6) فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن النسيان سائغ عروضه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان حاضر العلم لما جاز نسيانه، ولا احتاج إلى لفته، بأن يكون متنبها لما يقرأ عليه حتى لا ينسى. ومنها قوله عز وجل: “قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ” (النمل 65) فهذه الآية صريحة بانحصار علم الغيب بالله جل شأنه. ولو كانوا حاضري العلم لاشتركوا معه سبحانه بهذه الصفة. بل إن النبي نفسه يعترف بأنه لا يعلم الغيب، كما حكى عنه تعالى ذلك في قوله تبارك وعز: “وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ” (الأعراف 188) وهل بعد هاتين الآيتين من شبهة في أن علم الغيب منحصر به تعالى، وأن علمهم ليس بحاضر؟ ومنها قوله عز شأنه: “وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ” (التوبة 101) وأي دلالة أصرح من دلالة هذه الآية المباركة بأن علم البني صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن حاضرا، بالأشياء ولو كان حاضرا لأخبر تعالى عنه، بأنه كان يعلم بنفاق أولئك الأعراب وبعض أهل المدينة. فهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي الكتاب العزيز صريحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعلم الغيب. فكيف إذا شأن الأئمة الأطهار فيه، وبما أوردناه من الآيات البينة كفايد في الدلالة على القصد. ولا حاجة بنا إلى إيراد شئ من الكتاب الكريم سواها. (الجواب عنها). إننا لا نريد أن نثبت بأن علمهم ذاتي لا يحتاج إلى العلم حتى العلام تعالى، بل إن علمهم كان بلطف منه جل شأنه، وتعليم من لدنه جل ذكره، فهذا لا يأبى من أنهم لا يعلمون بالذات: الغيب ولا غيره، فهذه الآيات الكريمة لا تعارض تلك الآيات التي صرحت بأن الله تعالى وإن استأثر بعلم الغيب إلا أنه شاء أظهر عليه من ارتضاه من الرسل، وأن رسولنا صلى الله عليه وآله كما في الأحاديث ممن ارتضاه الله سبحانه. على أن هذه الآيات نفسها دلت على هذا المفاد، كما في قوله: “وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ” (البقرة 255) فإن هذا الاستثناء كاف في الدلالة على إشاءته تعالى لأن يحيطوا بشئ من علمه. وهذه الطائفة محمولة على استئثاره بالعلم الذاتي. وأما من أطلعه على ذلك العلم كما دلت عليه تلك الآيات فذلك العلم محمول على. الغرضي، بل إننا لا نريد أن نثبت بما سلف أن لديهم كل ما يعلمه الجليل سبحانه، ولا تلازم بين علمهم الحضوري وأنه يعلمون كل ما يعلمه العلام سبحانه، فيجوز حينئذ أن نحمل ما دل على نفي ما يعلمه العلام سبحانه، فيجوز حينئذ أن نحمل ما دل على نفي علمهم وما دل على استئثاره بشئ على اختصاص ذلك بما تخصص به ولم يطلع عليه أحدا من البشر، ويشهد له ما جاء في الأحاديث التي قالت بأن الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وأن عندهم منه اثنين وسبعين وأن الجليل تعالى استأثر بحرف واحد. فهذا يدل على أنه اختص بشئ لم يطلعهم عليه.
يستمر الشيخ المظفر قدس سره في سرد منابع علمهم قائلا: على أنه قد يقال في الجواب إن هذه الآيات وما سواها، مما دل بظاهره على أن الأنبياء كانوا لا يعلمون، ولا سيما مثل قوله تعالى: “وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ” (القدر 2) وقوله جل شأنه: “وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ” (الحاقة 3) وقوله عز وعلا: “وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ” (الانفطار 17) وقوله عز وجل: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ” (الاسراء 36) وقوله سبحانه: “ا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ” (التوبة 101) إلى غيرها محمولة على أن المراد بها الأمة من باب إياك أعني واسمعي يا جارة. بل يمكن الجواب عن كل آية آية. ولكن لا نريد الإطالة في الجواب والإكثار من الكلام. ولو لم يمكن التوفيق بين هاتين الطائفتين من الآيات الكريمة، فلا بد من التصرف في ظاهر هذه الطائفة خاصة، لأن حكم العقل قاض بأن الإمام لا بد وأن يكون علمه حضوريا كما أنه لا يمكن التصرف في صريح هاتيك الآيات.
وعن الأخبار النافية للأخبار الدالة على الحضور يقول الشيخ محمد حسين المظفر في كتابه: قد بينا في مقدمات هذه الرسالة الفرق بين علمه تعالى وعلمهم، وأن علمه تعالى عين ذاته، وأن علمهم صفة خارجة عن الذات زائدة عليها وأنه موهوب منه جل شأنه، وهذا لا ينافي أنهم لا يعلمون الغيب بالذات بل إنما يعلمونه بالتعليم والمنحة منه تعالى. على أن التخصيص للكتاب بالسنة جائز ووارد. وقد جاء في المقام قوله تعالى: “إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ” (الجن 27) وكان والله محمد ممن ارتضاه فالرواية بعد التخصيص شاهد على أن النبي كان يعلم الغيب مما أعلمه الله عز وجل.
وعن شبهات بعض القائلين بعدم العموم والرد عليها يقول الشيخ المظفر قدس سره: لو كان علمهم حاضرا للغى نزول جبرائيل. إن نزول جبرائيل بالوحي والآيات، وإخباره بالحوادث والكائنات، دليل قطعي على عدم فعلية علم النبي، إذ لو كان فعليا لما احتاج إلى مجئ جبرائيل، وغشيانه بالوحي، وإعلامه بالحوادث، ويؤيده قوله تعالى “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ” (القدر 4) فإن نزول الملائكة والروح على النبي أو على الإمام بعده في ليلة القدر وإتيانهم بكل أمر يحدث في تلك السنة، شاهد لعدم علمهم بما تأتي به الأيام، لولا تنزل الملائكة والروح. وجوابه أولا: بأن لعلمهم الحاضر منابع يستقون من فراتها، وموارد ينتهلون من معينها، ومن تلك المنابع والموارد غشيان الملائكة عليهم بالوحي والإعلام بالحوادث، وهذا لا ينافي أن يكون علمهم حاضرا، ولحضوره أسباب ودواع. وثانيا: بأن إنزال الملائكة وجبرائيل والروح بالآيات والحادثات، إنما هو لإقامة الحجة وتأييد الدعوة، ومن ثم كان تعدد الأنبياء على الأمم بل وتعددهم في الوقت الواحد، كما كان لكل واحد منهم آيات عديدة ودلائل أكيدة، تقوم على صدق دعواه ومن تلك الحجج المقامة على العباد اشهاده تعالى عليهم بجعل الحفظة والكرام الكاتبين وتسجيلهم كل عمل وقول، مع أنه جل شأنه هو الحفيظ الرقيب والشاهد غير الغائب. ولو أخذنا بما يدعيه الخصم للغى كل هذه البينات، وبطل كل هذه الآيات والحجج والبراهين. وثالثا: بأن مثل هذه الحجج المقامة إنما تكون لطفا منه بعباده، لتقريبهم إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية، ولولا ذلك لكان في العقل وإقامته حجة على العبد، كفاية عن سواه من الدلائل المنصوبة. ورابعا: بأن هذه الدعوى مصادمة للبراهين العقلية والشواهد النقلية، ولا نرفع اليد عن صريح تينك الحجتين، بمجرد الاحتمال والاستبعاد، ولو جهلنا الحكمة في إنزال جبرائيل بالوحي لتأولناه بصريح العقل والنقل. وهذه أقوى الشبه التي أوردوها لدفع العلم الحاضر وأقاموها لتأييد زعمهم بأنه موقوف على الإشاءة، وقد عرفت الجواب عنها والدافع لها.