download (2)

ضياء ابو معارج الدراجي

بعد أن تهاوت قلاع البعث وصنمهم صدام، تناثر رماد أجهزتهم القمعية، فتوارى كثير من جلادي الأمس خلف الأبواب المغلقة، يراقبون المشهد بعيون مترقبة، تائهين بين ماضٍ دموي يلاحقهم ومستقبل مجهول لا يرحمهم. لكن البعض منهم لم يقبل أن يكون طيفًا في زوايا النسيان، فالتف على حقيقته، وغيّر جلده، ولبس عباءة العشيرة متدثرًا بموروثها الاجتماعي الذي لا يسأل كثيرًا عن ماضٍ ملطخ بالدماء، بل يبحث عن القوة والنفوذ.

هؤلاء الذين كانوا بالأمس أدوات قمع بيد صدام، ينهالون بالهراوات على أبناء عشائرهم قبل غيرهم، ويقودون حملات الإعدام والسجن والتغييب، عادوا اليوم بزعم القيادة العشائرية، واستغلوا طيبة المجتمع العشائري، فبنوا لأنفسهم سطوة جديدة، لا تقل بطشًا عن تلك التي مارسوها تحت عباءة البعث. بات الواحد منهم شيخًا متنفذًا، يسيّر مئات الرجال من أبناء عشيرته، ويقتحم الدوائر الحكومية ليس بقوة القانون، بل بنفوذ العصبة والسلاح والعلاقات التي أقامها أيام حكم الطاغية.

لقد أدركوا أن العشيرة، بترابطها العاطفي وقيمها التي قد تخلط بين الحماية والتستر، توفر لهم حصنًا من المساءلة، فصاروا يفرضون إرادتهم على الدولة، لا كخدام لصدام هذه المرة، بل كأسياد مستبدين بواجهة عشائرية. منهم من عاد ليحتل مناصب حكومية، ومنهم من أعاد بناء شبكات الفساد، ومنهم من أصبح الذراع الخفية التي تحرك بعض القوى في الخفاء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يقبل أبناء العشائر بهؤلاء الذين جلدوا ظهورهم بالأمس؟ كيف يغفرون لمن خان عشيرته وسام أهلها سوء العذاب؟ أم أن لعبة المصالح والنفوذ أصبحت أقوى من الذاكرة؟

هؤلاء ليسوا شيوخًا، بل تجار نفوذ، باعوا أنفسهم مرتين: مرة لصدام حين كانوا عبيده، ومرة لعشائرهم حين جعلوها غطاءً لماضيهم. لكن مهما تقنعوا بالعشيرة، تبقى دماء ضحاياهم شاهدة عليهم، والتاريخ لا يغفر لمن قتل أخاه ثم عاد ليبكي عليه بدموع التماسيح.

ضياء ابو معارج الدراجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *