
نزار حيدر
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
هذهِ الآيةُ الكريمةُ تؤَسِّسُ لفكرةِ [النُّخبةِ] التي هي الشَّريحةُ الوسَط بينَ السُّلطةِ والشَّعبِ، بين الحاكمِ والمحكومِ، فهيَ ليست جُزءاً من السُّلطةِ لأَنَّها إِذا كانت [سُلطويَّةً] فسوفَ لا تدعو إِلى الخيرِ ولا تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المُنكرِ ولا تُشخِّصُ أَخطاءها ولا تنتقِد أَداءها ولا تفضحَها إِذا أَخلفَت بإِلتزاماتِها، فالسُّلطةُ، كما نعرِف مَصالحُ وامتيازات ونفُوذ، والمَصالحُ تتضارب معَ مبدأ الأَمر بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكرِ ولذلكَ فالقريبُ من السُّلطةِ يُداريها فلا ينتقِدها أَو يقُولُ لها كلاماً يُزعجَها ليحمي مصالحهُ حتَّى إِذا جاءَ ذلكَ على حسابِ الحقِّ والباطل، ولذلكَ وردَ أنَّ النبيَّ (ص) سُئِلَ أيُّ الجهادِ أفضلُ قالَ {كلمةُ حقٍّ عندَ سُلطانٍ جائرٍ} لأَنَّها تكونُ صعبةً وثمنُها غالي قد يكُونُ قطعُ رقبةٍ!.
وإِلى هذا المعنى أَشارَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّه سُبْحَانَه إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
ولذلكَ يلزم أَن تحتفِظَ النُّخبةُ لنفسِها بمسافةٍ ما من الحاكمِ حتَّى تتحرَّر من هذهِ الأَمراض الثَّلاثة التي يذكرها النصُّ أَعلاهُ، وإِلَّا فستَصرَعُ عقولَها وإِرادتَها المطامعُ التي يشتري بها الحاكِمُ الرِّجالَ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ}.
كما أَنَّها ليست الشَّعب لأَنَّها إِذا كانت جُزءاً منهُ فسوفَ يصعَب عليها مُراقبةِ [نفسِها] وتحمُّلِ أَعباءَ الدِّفاعِ عنهُ والتصدِّي لانتزاعِ حقوقهِ من مخالبِ الحاكِم، كما يصعَب عليها التَّفكير والتَّخطيط خارج المألوف فليسَ كُلَّ الشَّعبِ مُستعِدٌ للمُواجهةِ دائماً كما أَنَّهُ ليسَ كُلَّ الشَّعبِ مُستعِدٌ للمُعارضةِ والتَّضحِيةِ دائِماً.
ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ الآية الكريمة تُميِّز [أُمَّة] النُّخبة كمَجموعةٍ من المُجتمعِ بـ [مِن] التَّبعيضيَّةِ فهيَ ليسَت كُلَّ المجتمع، وهي إِذا لم يكُن لها وجودٌ فسيسترِسلُ المُجتمع معَ الواقعِ حقّاً كانَ أَم باطلاً كما ستسترسِلُ السُّلطة، مُستغِلَّةً غفلَة المُجتمعِ، بمناهجِها وأَدواتِها حقّاً كانت أَم باطِلة.
ولذلك وردَ في الأَثرِ {كُن في النَّاسِ ولا تكُن معهُم] فإِذا كانَ النَّاسُ هِتافهُم [بالرُّوح بالدَّم] و [علي وياك علي] فالنُّخبةُ ليسَت كذلكَ!.
فما هيَ فائِدةُ النُّخبةُ في المُجتمعِ؟!.
لتبسيطِ الإِجابةِ نسأَلُ السُّؤَال التَّالي؛ هل يمكِنُ لأَحدٍ في المُجتمعِ أَن ينأى بنفسهِ عن الخطأِ أَو الإِنحرافِ أَو يهرب من المُشكلةِ التي تقع في المُجتمعِ؟! وأَقصد بها المَشاكل الإِجتماعيَّةِ على وجهِ الخصُوصِ؟!.
مثلاً؛ إِذا انتشرَت ظاهِرة الشُّذوذ الجنسي في المُجتمعِ أَو المُخدِّرات فهل من العقلِ والحكمةِ أَن يفكِّر المرء بإِغلاقِ البابَ على نفسهِ لحمايتِها وحمايةِ أُسرتهِ من هَذينِ المرضَينِ الخَطيرَينِ والمُدمِّرَينِ؟!.
أَو لو أَنَّ المُجتمع تساهلَ مع ديكتاتوريَّة الحاكِم وتماهلَ معَ أَدوات القمع التي يوظِّفها لإِسكاتهِ فهل لأَحدٍ أَن يُنقِذَ نفسهُ من ذلكَ إِذا ما تغوَّلت الحالة وسيطرَت على المُجتمع؟!.
يقُولُ تعالى مُحذِّراً {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
لذلكَ فإِنَّ من أَهم واجِبات النُّخبة في المُجتمعِ؛
*مواجهةُ الخطأ والتَّنبيه له والإِشارة إِليهِ سواءً كانَ من الحاكِم أَو من المحكُوم، من السُّلطة أَو من المُجتمع، فالمعيارُ هو الخطأ وليسَ المصدر وإِن كانَ لطبيعةِ المصدرِ تأثيرٌ إِضافيٌّ على الخطأ.
لا ينبغي أَن تتوقَّف [النُّخبة] عن أَداءِ هذا الواجبِ حتَّى إِذا استخفَّ بهِ المُثبِّطونَ ومُطبِّلوا السُّلطةِ، أَو لم تلمِس لهُ أَثراً على أَرضِ الواقعِ.
يقُولُ تعالى {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
أُنظرُوا إِلى هذا النصِّ الرَّائع الذي يُلخِّصُ فيهِ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) قُصَّة [الفِتنة] التي انتهَت بمقتلِ الخليفةِ الثَّالث؛
يقولُ (ع) {إِنَّه قَدْ كَانَ عَلَى الأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا}.
*مُساعدةُ الحاكِم والمحكُوم على حدٍّ سواءٍ على فعلِ الشَّيءِ الصَّحيح وتجنُّبِ فعلِ الشَّيء الخطأ، وهو فَحوى الأَمر بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكرِ بالمعنى الأَعم والأَعمق.
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {وإِنَّ عِنْدَكُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّه وقَوَارِعِه وأَيَّامِه ووَقَائِعِه فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَه جَهْلًا بِأَخْذِه وتَهَاوُناً بِبَطْشِه ويَأْساً مِنْ بَأْسِه فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
فَلَعَنَ اللَّه السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي والْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي!}.
ومن هتَينِ المُهمَّتَينِ تنبثق فِكرة المُعارضة الإِيجابيَّة والنَّقد البنَّاء والتي أَساسها ثابِت حريَّة التَّعبير واحترام الرَّأي الآخر اللَّذانِ يحمِيانهُما.
إِنَّ الذينَ يُريدُونَ أَن يتحوَّل المُجتمع كُلَّ المُجتمع وأَن تتحوَّل النُّخَب كُلَّ النُّخب إِلى بوَّاقة تلحَسُ قِصاع الزَّعامات فلا تقولُ إِلِّا ما يُرضي المسؤُول ولا تُغرِّد إِلَّا بما يُطرِبُ لهُ الزَّعيم ولا تكتبُ وتنشرُ إِلَّا بما يُثيرُ نشوَة القائِد الضَّرورة، إِنَّ هؤُلاء يدمِّرونَ المُجتمع بهذهِ العقليَّة المريضةِ وهُم بها يواجهُونَ الفِطرةَ الإِنسانيَّة التي فُطِرَ النَّاسَ عليها من خلالِ التَّغافُلِ عن جوهرِ الآيةِ الكريمةِ.
إِنَّهُم يُحرِّضُونَ بعقليَّتهِم التَّافِهة على تغييبِ خُلُقٍ من أَخلاقِ الله تعالى، كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقَولهِ {وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّه سُبْحَانَه وإِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ}.
يقولُ تعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
أَي بئسَ العمَل عملُ البوَّاقة والمُتزلِّفينَ والوُصولييِّنَ الذين يبرِّرونَ للمسؤُولِ فسادهُ وفشلهُ وظُلمهُ وتجاوُزهُ على وتضييعهِ حقُوقَ النَّاسِ وفي نفسِ الوقتِ يُواجِهونَ من يتصدَّى لفضحهِ بالتُّهمِ والإِفتراءات.
قد تحولُ ظروفكَ الخاصَّة فضحَ الفسادِ وتعرِيةَ الفشَل، فهذا أَمرٌ يخصَّكَ أَنتَ تتحمَّل مسؤُوليَّتهُ، فلماذا تمنع الآخرين من ذلكَ إِذا حالفهُم الحظ وخدمتهُم الظُّروف لتحمُّلِ هذهِ المسؤُوليَّة؟!.
لماذا تقفُ عقبةً في طريقهِم؟!.
إِذا لم يكُن بوسعِكَ أَن تؤَيِّدهُم ولو بشقِّ كلمةٍ، فعلى الأَقل أُسكت ودعهُم يتصدُّونَ للمسؤُوليَّة فلا تضع العِصي في دواليبِ حركتهِم!.
يقولُ تعالى {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
٢٠٢٥/٣/٣