
احمد الساعدي
المشهد الآن في سوريا لا يبتعد كثيرًا عن لعبة من لعب أجهزة المخابرات التركية والإسرائيلية، ولربما ينظر الآخرون للأحداث من زاوية مختلفة، لكننا نفسر الأمور وفق المعطيات المتاحة والتطورات المتسارعة في مناطق الساحل السوري، وخاصة اللاذقية، حيث يشهد الوضع هناك تصعيدًا أمنيًا وعسكريًا لافتًا. العمليات النوعية التي تستهدف مواقع محددة تثير تساؤلات عدة حول طبيعة الفاعلين والأهداف الحقيقية لهذه الهجمات.
ما يجري ليس مجرد ضربات معزولة، بل هو جزء من عملية استخبارية منظمة تهدف إلى إعادة تشكيل المشهدين الديموغرافي والعسكري في المنطقة، بما يتماشى مع الأجندات التركية والإسرائيلية. كل المؤشرات تؤكد تورط عناصر استخبارية تركية بالتنسيق مع مجموعات سورية محلية، حيث يجري استهداف مواقع أمنية وعسكرية في مناطق ذات أغلبية علوية وشيعية، في محاولة لخلق مناخ من الفوضى يؤدي إلى عمليات تهجير قسري للسكان، وإفراغ هذه المناطق من مكوناتها الأساسية.التكتيك المستخدم في هذه العمليات يقوم على افتعال أحداث من شأنها إعطاء مبررات لشن حملات عسكرية شرسة ضد العلويين والشيعة في الساحل السوري، تحت غطاء الرد على عمليات مزعومة تستهدف مقرات تابعة للجولاني وفصائله المسلحة، مما يتيح تنفيذ مخطط التهجير المنهجي. الهدف من هذه العمليات هو فرض تغييرات ديموغرافية واسعة، بما يخدم المصالح التركية على المدى البعيد، ويفتح المجال أمام مشاريع إعادة توطين مجتمعات جديدة تتماشى مع التوجهات الإقليمية لتركيا وإسرائيل.
الدلائل على هذا المخطط تتضح من طبيعة الأسلحة المستخدمة، إذ إن معظم الأسلحة التي بحوزة فصائل الجولاني تحمل بصمات تركية واضحة، وخصوصًا الطائرات المسيرة “شاهين”، إلى جانب أنواع أخرى من الأسلحة التي تزود بها تركيا هذه الجماعات. كل هذا يجري وسط صمت عربي ودولي مريب، في حين أن الجرائم التي ترتكب ضد العلويين والشيعة في اللاذقية والساحل السوري لا تحظى بأي إدانة حقيقية، مما يشير إلى تواطؤ أو على الأقل تجاهل مقصود لهذه الأحداث.
ما يحدث الآن هو جزء من حرب استخباراتية معقدة تهدف إلى إعادة رسم الواقع الجيوسياسي في سوريا، وفرض أمر واقع جديد يخدم مصالح أطراف إقليمية ودولية. استمرار التصعيد قد يفتح الباب أمام مرحلة أكثر خطورة وتعقيدًا في الصراع السوري، خاصة بعد هذه الجرائم التي تنتهك كل القيم الإنسانية.سبق لنا أن حذرنا من الجولاني ومخططاته، وقلنا إن مشروعه الحقيقي سيظهر عندما يتمكن من السيطرة على مناطق نفوذه، والآن بدأت ملامح هذا المشروع تتضح، لكن الصراع لم ينتهِ بعد، والعلويون والشيعة في سوريا لن يبقوا مكتوفي الأيدي، فهم أهل حرب وخبرتهم القتالية معروفة عبر التاريخ. قد تكون أجهزة المخابرات التركية والإسرائيلية وأدواتها من الجماعات المسلحة قد نجحت مؤقتًا في تنفيذ مخططها، لكن المعادلة قد تتغير في أي لحظة، خاصة إذا حصل العلويون والشيعة في سوريا على دعم من القوى التي تشترك معهم في العقيدة والمصالح.ما يجري الآن ليس سوى فصل جديد من فصول الصراع على سوريا، لكنه قد يكون من أكثر الفصول دموية وتأثيرًا على مستقبل المنطقة بأكملها .