صباح البغدادي
على وقع أصوات قذائف المدافع والرصاص المتطاير والدخان المتصاعد من مختلف محافظات ومدن وبلدات قرى الساحل السوري، تتصاعد المخاوف من أن تتحول شرارات الانتقام الطائفية إلى حريق هائل قد لا ينجو أحد منه ولا حتى يستطيع أحد إطفائه , يلتهم معه ما تبقى من أمل في مواصلة مسيرة بناء “فجر سوريا الجديد” ونحو أفق أوسع وأشمل من التعايش السلمي والتنمية الاقتصادية والمجتمعية . فمنذ يوم الخميس السادس من آذار 2025 تحول على طول شريط الساحل إلى ساحة من المعارك الدامية ، حيث تقاتل قوات الأمن العام ووزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة بضراوة ضد جماعات مسلحة تابعة للنظام البائد , وهنا، في قلب هذا الصراع نرى أنه يتأرجح مصير شعب بأكمله بين الحلم بدولة المواطنة المدنية أو الكابوس المرعب بعودة شبح الحرب الأهلية مرة أخرى.
وسط هذا الزخم الدراماتيكي، تحاول السلطات الرسمية فرض الأمن بكل ما أوتيت من قوة، لكن الأسئلة المقلقة بدأت منذ اللحظة اندلاع المواجهات المسلحة ,وسقوط العشرات والمئات من الضحايا المدنيين والعزل الذين كانوا بين كماشتي المواجهات المسلحة وتتزايد بمرور الدقائق والساعات : هل ستنجح في إخماد نار الطائفية التي ما زالت تتربص تحت الرماد؟ أم أن يد إيران الخفية ، التي لم تغفر لسوريا سقوط حليفها وقلاع هلالها الشيعي، ستشعل معها فتيل الانفجار الكبير والذي يحرق معه الاخضر : من المنجزات التي تحققت أو اليابس: من الطائفية والمذهبية ؟ لان ما نراه الان حاليآ من مشاهد تصاعد حدة المعارك والاشتباكات بشكل غير مسبوق، وبينما تنفي جماعات مثل “حزب الله” اللبناني وفصائل وأحزاب ولائية مسلحة للحشد الشعبي العراقي أي تورط مباشر بهذا الصراع الجاري حاليآ وتبرره بأنه انتفاضة شعبية ضد حكم النظام السوري الجديد ، ولكن وبالمقابل فأن الشكوك تحوم في المخيلة وتتفاقم : هل هي مجرد ستارة دخان قد تخفي معها خطة أكبر وأعمق وقد تكون غير منظورة حاليا ولكنها قد تنعكس خلال الأيام أو الأسابيع القادمة لما يحدث حاليا من مواجهات مسلحة وان البعض ينتظر على الحدود لغرض الاشتراك المباشر بهذه الحرب من وجهة نصرة للطائفة والمذهب؟ وفي الوقت الذي نرى بان يحاول فيه المجتمع السوري التمسك بمكتسباته التي حققها خلال الأشهر الماضية، نرى أن هناك ما يزال يتحين الفرصة ويريد أن تشعل معها الأوضاع وينتظر الإشارة الاشتراك والدعوة المباشرة من قبل ما تبقى من قيادات وفلول النظام المخلوع , فقد وُجّهت اتهامات مباشرة لعدد من الشخصيات العسكرية والأمنية السابقة التابعة لفلول النظام المخلوع بالوقوف خلف تلك المعارك التي نجم عنها سقوط المئات بين قتيل وجريح , هذه الفلول المتبقية والتي ما تزال تستخدم المناطق الجبلية الوعرة كمنطلق لتخزين السلاح وشن هجمات دامية يقودها كل من “سهيل الحسن” الملقب بـ “النمر” وهو أحد أكثر القادة العسكريين أجراما خلال الحرب الأهلية الأولى. حيث كان أول من أدخل البراميل المتفجرة كسلاح رئيسي في معارك جيش النظام السابق ، ما تسبب في دمار واسع ومقتل آلاف المدنيين العزل وإلى تورطه في تنظيم تحركات عسكرية مضادة تهدف إلى استعادة السيطرة بالكامل على الساحل السوري، مستخدما بقايا القوات الخاصة السابقة التي قادها وبالإضافة الى قائد المخابرات الجوية “إبراهيم حويجة” الذي اشتهر بدوره سابقا بحملات الاعتقال والتعذيب ضد المعارضين، إضافة إلى تنفيذ اغتيالات سياسية في لبنان، حيث كان يشرف على الملف الأمني خلال فترة الوجود العسكري السوري كذلك “غياث دلا ” وهو أحد أكثر القادة العسكريين ولاء لإيران وحزب الله اللبناني ، وقاد “قوات الغيث” التابعة للفرقة الرابعة، والتي كانت تحت قيادة “ماهر الأسد” وكذلك الضابط “مقداد فتيحة” حيث اعلن قبل أسابيع عن تشكيل “لواء درع الساحل”.
ومن خلال متابعتنا عن كثب ونقرأ مدى ما وصلت اليه من خطورة تأجيج الأوضاع في سوريا , ومن خلال قراءتنا لمنشورات الكراهية والحقد وتتسلل أصوات الانتقام وذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي كالسمّ الناقع، وهي تحرض على الكراهية وبث الشائعات المغرضة, نعتقد بأن هنا تكمن معركة حقيقية يتم خوضها على الواقع الافتراضي لا تقل ضراوة على المعركة على ارض الواقع وليست فقط في الشوارع، بل في قلوب وعقول السوريين الذين يقفون على مفترق طرق تاريخي. فهل سينجح فسيفساء هذا الشعب العريق في الصمود أمام محاولات تمزيقه؟ الإجابة التي نعتقدها قد تكون على بعد لحظات من الآن، حيث نتخوف جدا حاليا ولدينا قلق وترقب أنظارنا الى ما سوف يحدث خلال الأيام او الأسابيع القادمة من مصير المراقد المقدسة، مثل مرقد “السيدة زينب”، التي قد تصبح – لا قدر الله – الشرارة التي طالما حذرنا منها في سلسلة من المقالات السابقة التي تناولت الشأن السوري والذي يبدو أنه يعكس مرحلة انتقالية حرجة في سوريا بعد سقوط النظام، أرى أن البلاد تقف على حافة تحول تاريخي قد يكون إما بداية لعهد جديد من الوحدة والاستقرار، أو انزلاق نحو فوضى طائفية مدمرة. الصراع في الساحل السوري، كما وصفته، يعكس محاولات فلول النظام السابق وحلفائه، خاصة إيران، لاستعادة النفوذ أو على الأقل تعطيل مسيرة الإدارة الجديدة. الخوف لدينا ناتج من تكرار سيناريو العراق – حيث أدى تفجير مرقد الإمامين في سامراء عام 2006 إلى حرب أهلية طاحنة – ليس مجرد تخوف نظري، بل احتمال قائم إذا لم تتحرك السلطات بسرعة وحزم لاحتواء التوترات الطائفية.
إيران، التي خسرت حليفها الاستراتيجي في دمشق، تبدو لنا بانها أصبحت مستعدة أكثر من السابق إلى لعب ورقة الفوضى الطائفية ولا نستبعد أبدآ بأنها تفكر وتخطط وتتهيأ لما هو أسوأ ويصب في مصلحتها القومية وبعد تفكيرها الاستراتيجي وقد تلجأ إلى أساليب غير مباشرة كالتفجيرات أو دعم الخلايا النائمة لزعزعة الاستقرار وقد تلجأ إلى استراتيجية الأرض المحروقة، لإشعال فتيل الفوضى من جديد خاصة في مناطق ذات رمزية دينية. في المقابل، يجب أن تدرك تمامآ الإدارة السورية الجديدة مدركة لهذا الخطر، لكن نجاحها يعتمد على قدرتها على توحيد المجتمع، والتنسيق والتشاور المستمر مع القادة المحليين ورجال الدين المشرفين على المراقد الشيعية ، ومواجهة الحرب النفسية التي تُشن عبر وسائل التواصل. صحيح أن المشهد معقد، ولكنه نراه ليس ميؤوساً منه بالمطلق وإذا تمكنت سوريا ومجتمعها من تجاوز هذه المرحلة الحرجة بالوحدة ومنطق العقل الحكمة وليس منطق التشفي واتخاذ القرارات الارتجالية والعشوائية.
على الرغم من أن الحكومة العراقية قد سارعت بالنفي من وجود “ماهر الأسد “على أراضيها وكذلك بمشاركة بعض من فصائل الولائية والأحزاب المسلحة التابعة للحشد الشعبي , في ما يجري حاليآ من مواجهات وقتال عنيف , ولكن التقارير الإعلامية المسربة خلال الساعات الماضية تشير خلاف ذلك والى أن قد شوهد “ماهر الأسد” برفقة مجموعة من الضباط والمراتب الذين التجأوا الى العراق بعد سقوط دمشق برفقة قيادات وعناصر من حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق بالمنطقة الحدود العراقية السورية الواقعة بين ((مخفر تل صفوك ومخفر عرباطة)) ومعهم شاحنات محملة بالأسلحة والذخيرة والعتاد الحربي لغرض العبور الى مناطق الحدودية التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. لكن الطائرات المسيرة التركية التي تراقب على مدار الساعة الحدود العراقية السورية لمنع أي عبور للمليشيات الشيعية الموالية للحرس الإيراني قد تصدت لهذا الرتل وبعد قيام سلاح الجو التركي بتدمير رتلين من قوات سوريا الديمقراطية -قسد- انطلقت لمساندة فلول النظام المخلوع في مدن الساحل ولم يعرف لغاية الآن إذا كان “ماهر الأسد “موجودا ضمن الرتل أم لا، لكن هناك قتلا وجرحى من مقاتلين “حزب الله /العراقي “و “عصائب أهل الحق” ضمن هذا الرتل الذي تم استهدافه. وبعد أن تأكد من خلال التصريحات الرسمية المتواصلة من إلقاء القبض على عناصر مقاتلة من “حزب الله” اللبناني وجماعة أنصار الله الحوثية ومن خلال تطهير قرى في ريف اللاذقية من ميليشيات ومجرمين مطلوبين للعدالة كانوا برفقة ضباط النظام السابق وهؤلاء دخلوا خلال الأسابيع الماضية من ضمن طرق التهريب والتسلل بين الحدود العراقية السورية المشتركة.
ولكن ما نتصوره حاليا ومن خلال متابعتنا للحدث الذي يجري على ارض الواقع بان قادة الفصائل المسلحة الولائية الايرانية (العراقية) يعتبرون هذه فرصة سانحة لهم لا تعوض لمساندة الطائفة العلوية تحت ستار مخادع ورفع شعارات كاذبة من قبل “التهميش والانتقام ” وقد يضطرون الى التدخل في الحرب الدائرة حاليا والتي تجري وقائعها على طول الشريط الساحلي السوري واذا تطورت الأوضاع خلال الأيام القادمة وخرجت عن نطاق السيطرة وبدأت فعلآ البوادر الأولى وطلائع الحرب الأهلية الثانية تلوح في الأفق حيث تجري حاليآ اتصالات مكثفة واجتماعات مرتقبة بين مختلف قادة هذه الفصائل وبين قيادات من الحرس الثوري الإيراني وبين بعض من قادة الحشد الشعبي دون إشراك الحكومة العراقية لغرض التنسيق والمتابعة والبحث في كيفية وطريقة اشتراكهم بالمعارك ومن اهم القادة ومن أبرز الميليشيات العراقية ، هي مليشيا النجباء ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراق، لواء أبو الفضل العباس، وكتائب الإمام علي وكتائب سيد الشهداء وسيأتي التدخل تحت ستار حماية مرقد السيدة زينب، ومرقد السيدة رقية . وكما أن هناك عددا آخر من الميليشيات التي شكلها الحرس الثوري الإيراني من مجندين شباب عراقيين لغرض إشراكهم بالقتال تحت حجة حماية المراقد المقدسة.
اليوم، نرى بوضوح ويقين أكثر من السابق، بان سوريا تقف على حبل مشدود فوق هاوية طائفية سحيقة وتتأرجح بين حلم الفجر الجديد وكابوس الهاوية الطائفية، لكن الأمل لم يمت بعد لنا , لذا على السوريين واجب وطني وشرعي – من كل الأديان والطوائف والمكونات – أن يتشبثوا بوحدتهم كما يتشبث الغريق بطوق النجاة . وعلى الحكومة الانتقالية إن تبادر بكل ما أوتيت من قوة لطلب الدعم من الدول العربية والصديقة في مساعدتها في إخماد نار الانتقام ، وألا تسمح وتترك البلاد تنزلق إلى ظلام الحرب الأهلية الثانية , وعلى دول العالم أن لا تكتفي بالتفرج وتبدأ بمهرجان من الادانات والتصريحات التلفزيونية وانما يجب ان تمد يد العون بكافة المجالات وحتى إصدار قرارات دولية ملزمة لمعاقبة كل المجرمين بحق الشعب السوري ، فإما أن نشهد فجرًا جديدًا، أو نودع سوريا في ظلام واقتتال داخلي قد لا ينتهي . ومع وجود الخطر الاستغلال الطائفي الحقيقي والذي يكمن دائمآ تحت الرماد , وشرارة نار الطائفية التي تهدد بإحراق فسيفساء الشعب السوري , وهذا ما لا نريده ولا نتمناه , لان الوضع في سوريا شأنا أم أبينا ينعكس بالسلب والإيجاب على الوضع المجتمعي والعقل الجمعي في العراق ويكون له تأثير أكثر من غيره من بقية الدولة للخصوصية الدينية ورمزية المراقد الشيعية المقدسة بين النجف وكربلاء وسامراء ودمشق / السيدة زينب.