
الإيكونومست / ترجمة زيد بنيامين
في صباح صيفي من عام 2021، اقترب رجل أنيق المظهر من نقطة العبور إلى سوريا التي تسيطر عليها قوات المعارضة.
شعر خالد الأحمد بانقباض في صدره بينما كان يترك تركيا خلفه.
الأحمد ينتمي إلى الطائفة العلوية، الأقلية التي تنحدر منها سلالة الأسد التي حكمت سوريا لمدة خمسين عامًا، وكان أحد المستشارين المقربين من بشار الأسد، رئيس البلاد حتى عام 2018.
كان الأحمد الان على وشك الدخول إلى منطقة خاضعة لسيطرة متمردين إسلاميين سُنّة، كان كثير منهم سيسرّ برؤية أمثاله يُعدمون.
لوّح له الحراس بالمرور إلى أرضٍ حرام، حيث كان رجال ملثمون ينتظرونه في سيارات دفع رباعي سوداء لمرافقته إلى وجهته.
اجري فحص سريع لأوراقه، ثم انطلقت السيارات بسرعة متجاوزة مخيمات اللاجئين المكتظة باتجاه منزل خرساني متعدد الطوابق على أطراف إدلب، المدينة التي كانت آنذاك مقرًا لأقوى ميليشيا إسلامية في سوريا.
كان زعيم الجماعة، أحمد الشرع – أو كما كان يُطلق على نفسه حينها، “ الجولاني” – في انتظاره.
لم يكن يُعرف الكثير عن الشرع في ذلك الوقت، لكنه كان يتمتع بسمعة في ممارسة مناورات السلطة.
كان كثيرًا ما يُبقي زواره منتظرين، واعتقد البعض أن ذلك كان وسيلة للتأكيد على أهميته، لكن عندما دخل العلوي إلى مركز قيادته، سار الشرع نحوه مباشرة وقبّله ثلاث مرات على وجنتيه – فقد كان الأحمد صديق طفولته القديم.
سلك الرجلان مسارين مختلفين تمامًا في حياتهما حيث صعد الأحمد إلى موقع بارز داخل القصر الرئاسي المطل على دمشق، بينما كان الشرع يخطط لهجمات انتحارية ضد النظام الذي يسيطر عليه.
كانت الحرب الأهلية السورية قد استمرت عشر سنوات بحلول وقت لقائهما في عام 2021، وأودت بحياة نحو نصف مليون شخص وارتكب الطرفان خلالها فظائع مروعة – رغم أن حصة النظام منها كانت أكبر بكثير – وكان كلاهما متشبثًا بقناعاته.
كان العديد من رفاق الشرع غارقين في العقيدة المتشددة للقاعدة، الذي يعتبر جميع أشكال الإسلام الأخرى هرطقة.
احتضن الشرع صديق طفولته بقوة، منادياً إياه بـ”أخي” و”حبيبي”.
قال الأحمد لاحقًا: “استقبلني كصديق، وليس كعلوي وكان لقاء لمّ الشمل”.
كان الأحمد قد طلب من وسطاء أتراك ترتيب لقائه بقائد المتمردين لأنه كان مقتنعًا بأن النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد تم استنزاف الأسد تمامًا بسبب الحرب الأهلية، ولم يتبق له أي مصدر دخل تقريبًا سوى بيع الكبتاغون، وهو نوع من الأمفيتامين، وكان قد استنفد معظم رجال الأعمال الذين يمكنه ابتزازهم.
منحت رابطة الطفولة الأحمد فرصة للتأثير في مستقبل سوريا، ولم يكن يريد الانتظار حتى يصل المقاتلون الإسلاميون إلى أبواب البلدات العلوية قبل مدّ يده.
أمضى الرجلان اليوم بأكمله في مقر الشرع في إدلب، يتناولان الشاورما، ويستعيدان ذكريات الطفولة، ويناقشان سيناريوهات ما بعد الأسد.
كان الشرع واثقًا من النصر، حتى إنه أظهر للأحمد مخططات معمارية كان قد كلف بإعدادها لإعادة إعمار دمشق، وعندما غادر الأحمد، وعد بمواصلة التواصل مع الآخرين لرسم مستقبل محتمل لسوريا.
كانت فكرة الشرع الأولية إقامة نوع من الفيدرالية، بحيث يظل الشرع في إدلب بينما يظهر نظام جديد في دمشق.
أصبح الجهادي السابق بعد ثلاث سنوات من ذلك اللقاء، الرجل الذي يجلس الآن في قصر الشعب بدمشق فقد اعلن الشرع نفسه رئيسًا مؤقتًا بعد فترة وجيزة من سقوط الأسد في ديسمبر 2024.
من الصعب على احدهم ان يتوصل إلى قناعة كاملة بشأن احمد الشرع، فصداقته السرية مع مسؤول سابق في النظام، والتي لم يُكشف عنها من قبل، تعد مثالًا واضحًا على التناقضات التي تجعل البعض يرون الشرع شخصية براغماتية منعشة، بينما يعتبره آخرون غير جدير بالثقة على الإطلاق.
يتمتع الشرع بموهبة إقناع محاوريه، على اختلاف توجهاتهم، بأنه في صفهم، فقد غادر جهاديون وليبراليون اجتماعاتهم معه مقتنعين بأنه واحد منهم، ووصفه أحد رجال النفط الذي التقاه مؤخرًا في دمشق انه “رأسمالي حتى النخاع”.
محاولة التنقيب في ماضيه بحثًا عن دليل بشأن شخصيته الحقيقية لا تؤدي إلا إلى المزيد من الأسئلة.
غير الشرع اسمه وهويته مرات عدة طوال حياته المهنية كما كان الحال مع ولائاته، مخادعًا أجهزة الاستخبارات وقادة الجماعات الجهادية على حد سواء.
وُلد باسم أحمد الشرع، لكنه كان يُعرف أيضًا بأسامة الوحدي، وعدنان الحاج، إلى جانب لقبه الأشهر، “الجولاني”، ولم يكن هناك سوى جهاديين اثنين فقط يعرفان اسمه الحقيقي في عام 2013.
الشيء الوحيد الثابت في مسيرته كان مرونته – وهي صفة ساعدته على أن يصبح آخر الرجال صمودًا بعد عقد من القتال الداخلي بين فصائل المتمردين الإسلاميين في سوريا.
يقول آرون زيلين، الخبير في شؤون الجهادية: “لا أعتقد أنه يمتلك أيديولوجية محددة – بوصلته هي السلطة”، مضيفًا: “لقد تمكن من البقاء لأنه بلا أيديولوجيا”.
لكن السوريين يشعرون بنفاد صبرهم إزاء تردده في الالتزام بشيء محدد.
تعج البلاد، التي دمرتها الحرب، بفصائل متوترة ذات خلفيات دينية مختلفة، وكثير منها مسلح، وتفويضه الرسمي الوحيد في الوقت الحالي هو مجرد استعراض شكلي وجزئي للولاء من قبل جماعات متمردة أخرى لذلك سيتعين عليه إبرام صفقات لإرساء سلطته، مما يعني حتمًا أن بعض الأطراف ستشعر بخيبة أمل.
يضغط الدبلوماسيون الأجانب عليه لإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن وضمان تمثيل للعلويين والمسيحيين وغيرهم من الأقليات، أما حلفاؤه الجهاديون، فيرون الديمقراطية خطيئة ولا رغبة لهم في تقاسم السلطة، والطريقة التي سيتعامل بها الشرع مع هذه المطالب المتنافسة ستحدد مستقبل الشرق الأوسط.
خوف الكثير من السوريين لا يقتصر على احتمال انحيازه للجهاديين، بل أيضًا من اندلاع مزيد من العنف والفوضى إذا فشل في إدارة العملية السياسية.
لقد نجا الشرع حتى الآن بفضل قدرته على تغيير هويته، متنقلاً بين شخصيات مختلفة: شاب يرتدي الجينز، إلى جهادي معمم، إلى متمرد وطني بزي عسكري، وإذا لم يُثبت الشرع أنه قادر على القيادة الحقيقية، فقد يكون تجسيده الأخير – كرجل دولة يرتدي البذلة الرسمية – هو آخر تحولاته.
قضى الشرع سنوات تكوينه داخل النظام على عكس معظم المتمردين السوريين. كان والده، حسين، ينتمي إلى عائلة قبلية بارزة في الجولان، المنطقة الريفية الواقعة جنوب سوريا.
استولت إسرائيل على الجولان في عام 1967، وطردت سكانه المحليين، وفقدت عائلة الشرع بساتين الزيتون الخاصة بها، وكانت من بين الآلاف الذين اضطروا للانتقال إلى أحياء عشوائية مترامية الأطراف في جنوب دمشق.
بدأ حسين الشرع بعد إذلاله على يد إسرائيل وحلفائها الغربيين، يزداد اهتمامًا بالقومية العربية، وهي حركة مناهضة للاستعمار.
كان أعضاء حزب سياسي قومي عربي قد استولوا على السلطة في سوريا في تلك الفترة، وبعد سنوات قليلة فعلوا الشيء نفسه في العراق، وكان للحزب الاسم نفسه في كلا البلدين: البعث.
لكن على الرغم من وحدة الاسم، كانت الأنظمة البعثية في العراق وسوريا مختلفة إلى حد كبير وغالبًا ما كانت على خلاف.
كان العراق دولة ذات غالبية شيعية يحكمها السنة، بينما كانت سوريا ذات غالبية سنية يحكمها العلويون، وهم طائفة تتبع فرعًا من المذهب الشيعي.
كان حسين الشرع أكثر ميلًا إلى النسخة العراقية من البعثية، ويقول أحد معارف العائلة: “كان يحب صدام حسين”، معتبرًا إياه مدافعًا عن القضية السنية ضد الغزوات الأجنبية.
لكن دعم الاتجاه الخطأ من القومية العربية كان أمرًا خطيرًا في سوريا حافظ الأسد، وبعد اعتقاله لفترة وجيزة بسبب أنشطته السياسية، فر حسين أولًا إلى الأردن، ثم إلى بغداد حيث درس الاقتصاد، وانتقل إلى السعودية في نهاية المطاف، وعمل في وزارة النفط هناك.
وُلد أحمد في الرياض عام 1982 وعاش هناك حتى بلغ السادسة من عمره.
أرسل حسين الشرع عائلته إلى دمشق في عام 1988، بينما عمل على إعادة بناء علاقاته مع النظام من بعيد.
كان حسين، وباعتباره خبيرًا اقتصاديًا مرموقًا، يتمتع بمعرفة قيّمة بشأن كيفية إدارة وزارة نفط حديثة، وقد حصل في نهاية المطاف على منصب مستشار لرئيس الوزراء السوري آنذاك.
انتقلت العائلة المكونة من خمسة أفراد إلى حي “مزة إيست فيلاز”، وهو مجمع سكني فاخر في وسط دمشق، حيث كان النظام يسكّن مسؤوليه وضباطه وأفراد أجهزته الأمنية.
كانت دمشق في التسعينيات مدينة باهتة حتى بالنسبة للنخبة بعد سنوات من العزلة الدبلوماسية والاقتصاد الموجه الصارم في عهد حافظ الأسد، لكن الشرع التحق بمدرسة جيدة، حيث كان السنة والعلويون والمسيحيون يلعبون كرة القدم وألعاب الكمبيوتر معًا، كما كانوا يطاردون الفتيات، ويأخذونهن إلى مرتفعات جبل قاسيون للتودد إليهن بينما تتلألأ أضواء دمشق في الأسفل.
لم يكن الشرع نفسه منسجمًا تمامًا مع هذا المحيط الكوزموبوليتاني، ولم يفقد والداه أبدًا لكنتهما الريفية، وظلت العائلة تحمل وصمة العار المرتبطة بوصفهم “نازحين” – وهي كلمة تحمل في طياتها إيحاءً بأنهم كانوا مسؤولين بطريقة ما عن فقدان منازلهم.
قال أحد زملائه في الصف: “كان يشعر بالسوء لكونه من الجولان”، ويبدو أن هذه الخسارة ظلت تطارده حتى سن الرشد – فلقبه الحركي الأشهر، الجولاني، يعني حرفيًا “من الجولان”.
تذكر أحد جيرانه أن الشرع كان مراهقًا خجولًا ومنطويًا وقال: “كنتَ تصعد المصعد وتسأله عن حال والديه، فينظر إلى حذائه دون إجابة”.
كان هناك شخص مشاكس في مجمعه السكني يستمتع بإهانته، وأصبح المتنمر لاحقًا شخصية بارزة في نظام الأسد، لكنه اضطر للفرار إلى بيروت عندما استولى الشرع على دمشق، وعندما التقينا في يناير الماضي على زجاجة من النبيذ الوردي اللبناني، تأمل قائلًا: “ربما كنتُ السبب… لقد كان يخاف مني”.
كان هناك صديق مقرّب واحد للشرع، وهو خالد الأحمد، العلوي الذي زاره في عام 2021.
كان الشابان يشعران بالاختناق في محيطهما المباشر، وكانا يقودان السيارة أحيانًا إلى لبنان للهروب من كل ذلك، حيث كان الأحمد يقود سيارته المرسيدس البيضاء.
ربما زاد من حذر الشرع تجاه أبناء المسؤولين حقيقة أن والده كان يواجه مشكلات جديدة مع النظام، ففي عام 1999، ترك حسين الشرع وظيفته الحكومية وافتتح مكتبًا صغيرًا للعقارات، بالإضافة إلى متجر بقالة صغير.
توفي حافظ الأسد في صيف العام التالي، وخلفه ابنه بشار، طبيب العيون النحيل والخجول، وتبع ذلك فترة قصيرة عُرفت بـ”ربيع دمشق”، حيث شعر المثقفون بأنهم أحرار بما يكفي للتجمع في المقاهي والحديث عن الإصلاح.
كان حسين الشرع مشاركًا بارزًا في هذه الصالونات الفكرية وأحد الموقعين على وثيقة شهيرة تطالب بإجراء انتخابات، لكن الأمل في التغيير سُحق بسرعة.
كانت نُخب البعث تتحدث عن الاشتراكية والوحدة العربية، لكنهم في الواقع أداروا نظامًا كليبتوقراطيًا قائمًا على المحسوبية، حيث كان من يجرؤ على معارضة النظام علنًا يواجه المخابرات المدربة على يد “شتازي”، جهاز الأمن في ألمانيا الشرقية.
أدخل بشار بعض الإصلاحات الاقتصادية، لكنه أبقى أسس النظام كما هي وتفاقم الفساد ومع ازدياد شغف النخبة بالسلع الاستهلاكية.
كان الشرع يقضي بعض فترات بعد الظهر في مساعدة والده في مكتب العقارات، حيث كان يعثر على شقق لمسؤولي النظام الذين كانوا يصلون في سياراتهم الفارهة وكان يكره القيام بذلك.
وجد ملاذه في المسجد المحلي، وبفضل الفترة التي قضاها في السعودية، كان قد تلقى بالفعل بعض التعليم الديني، لكنه انغمس فيه أكثر، ووفقًا لأحد المصلين، فقد أصبح تقيًا لدرجة أنه وبّخ الإمام المحلي ذات مرة لأنه لم يرتدِ قبعته البيضاء قبل الصلاة.
تبع يقظته الدينية يقظة سياسية، ففي عام 1982، وهو العام الذي وُلد فيه الشراء، اندلعت انتفاضة كبيرة ضد حافظ الأسد، قادها إسلاميون سنة ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان قمعها وحشيًا، حيث قُتل الآلاف بقصف الطائرات وقذائف الهاون في مدينة حماة.
وعلى مدى العقود التالية، كان أي شخص يُشتبه فيه أدنى شك في معارضته للنظام يُعتقل وغالبًا ما يُعذَّب.
كان العديد من النشطاء السياسيين في تلك الفترة يفتقدون بعض أسنانهم، التي حُطمت تحت تأثير صعقات المخابرات الكهربائية وكان ينظر إلى التدين السني كعلامة على إثارة المشاكل، وكان المحققون يسألون المتهمين: “هل تصلي؟” قبل أن يعرفوا أسماءهم حتى.
وبحلول مطلع القرن الحادي والعشرين، كان هناك شعور عميق – وإن كان مكبوتًا – بالاستياء بين العديد من السنة في سوريا، وكانت الصحوة الإسلامية السنية في الوقت ذاته، تجتاح العالم العربي، وبدا ان القومية العربية التي ألهمت جيل حسين قد فقدت بريقها.
كانت الجماعات الإسلامية الفلسطينية في طليعة المشهد عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية ضد إسرائيل عام 2000، بينما تراجعت الجماعات العلمانية إلى الخلفية.
كان نظام الأسد مدركًا تمامًا لإمكانية تحول المساجد السنية في سوريا إلى بؤر للتمرد، وسعى للسيطرة عليها بإحكام، وراقب جواسيس النظام الأئمة، واخترقوا المشهد الديني لدرجة أن حلقات دراسة القرآن كانت تُعرف باسم “مراكز الأسد”.
أراد الأسد أن يُلهم الإعجاب والخوف في الوقت ذاته لدى السنة في سوريا، وفي محاولة لتعزيز مكانته كزعيم عربي، دعا مشعل، زعيم المكتب السياسي لحركة المقاومة، للجوء إلى دمشق وفي عام 2001.
استقر مشعل في حي قريب من منزل الشرع، وخلال صلاة الجمعة في مسجده المحلي، سُمح له بالوقوف مباشرة خلف الإمام، بينما احتل حراسه الصف الأمامي.
ألقى مشعل محاضرات حماسية عن الانتفاضة في مساجد وصفوف دراسية عدة في دمشق، وكان الشرع من بين الحاضرين في بعضها.
وازداد التوتر في مسجد الشرع بعد أحداث 11 سبتمبر، ووفقًا لرفاقه في الصلاة، فقد استحوذت عليه فكرة أن إسلاميًا قد أذلّ قوة عظمى.
اتبع بن لادن شكلًا صارمًا من الإسلام السني يُعرف بالسلفية، فقلّد الشرع مظهر بطله الجديد، فأطلق لحيته (التي كانت في البداية خفيفة)، وارتدى قبعة بيضاء وجلبابًا أبيض مقصوصًا فوق الكاحلين.
ربما كان هذا الاهتمام بالسلفية الجهادية مجرد نزوة عابرة، لولا أن أمريكا قررت غزو العراق عام 2003، وانتشرت الدعوات بين المصلين في المساجد المشابهة لمسجد الشرع للذهاب ومقاومة المحتلين.
رأى الأسد في ذلك فرصة لتوجيه طاقات الساخطين السنة خارج حدود سوريا، وللحد في الوقت ذاته من اهتمام أمريكا المفاجئ بإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
أشرف آصف شوكت، رئيس استخباراته وصهره، على مخطط لنقل الجهاديين إلى العراق بالحافلات.
كان الشرع يدرس الإعلام في جامعة من الدرجة الثانية في ذلك الوقت، وفقًا لأحد معارفه القدامى، مما أثار استياء والده المثقف، ثم اختفى فجأة.
بحث والداه عنه في مكاتب المخابرات والسجن والمسجد، لكن لم يخبرهم أحد بشيء، وبعد فترة طويلة، علموا أنه استقل إحدى حافلات اصف شوكت.
رحب صدام حسين بالوافدين الجدد الذين جاؤوا لمساعدته في محاربة “الصليبيين”، وسيرهم في الشوارع مرتدين أكفانًا بيضاء وسترات انتحارية، لكن عندما هاجمت أمريكا، انهار نظامه دون مقاومة تُذكر، ويبدو أن الشرع أصيب بالذعر وعاد إلى سوريا بعد فترة قصيرة من وصوله إلى العراق.
من الخطأ اعتباره جهاديًا متصلبًا في تلك المرحلة، فقد كان التطوع في صراعات خارجية بمثابة طقس عبور للشباب الإسلاميين، أشبه باستعراض للإيحاء بانهم وصلوا إلى سن النضوج، ويبدو أن آخرين من المسجد نفسه قد سافروا معه.
لكن حسين الشرع، الذي ظل علمانيًا متشدّدًا، شعر بالاشمئزاز من تصرفات ابنه وطرده من المنزل، فانتقل الشرع الابن للعيش مع أقارب والدته في ضواحي جنوب دمشق، في حي أكثر فقرًا يقطنه نازحون من الغزوات الإسرائيلية.
كانت أشكال أكثر تطرفًا من الإسلاموية تزداد جذبًا في مثل هذه الأماكن، وتسارع هذا التحول مع عودة الشباب من العراق بعد القتال مع الجماعات الجهادية.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى بدأ الأسد يندم على مخطط السفر غير التقليدي الذي شجعه، وألقت المخابرات القبض على الشرع وأصدقائه السلفيين في نوفمبر 2003، وأُرسل معظمهم إلى سجن صيدنايا، الذي كان بمثابة غرفة تعذيب رئيسية للنظام، لكن الشرع نجا بطريقة ما من هذا المصير.
قال حسام جزْماتي، الكاتب السوري الذي حرر كتب حسين الشرع: “قال إنه لا يعرف شيئًا عن السياسة أو الجهاد”، وأُطلق سراحه دون تهم – وكانت هذه أولى محاولات نجاته العديدة الناجحة من قبضة وكالات المخابرات المختلفة.
يقول أصدقاؤه إنه كان معرضًا للاعتقال مجددًا في سوريا، فقرر العودة إلى العراق.
كانت المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في ذلك الوقت، لا تزال في مراحلها الأولى، لكن الموصل كانت بالفعل موطنًا لعدة مجموعات، وانضم الشرع إلى واحدة من أقلها تطرفًا، وذاع صيته كصانع قنابل بارع، حيث كان يصنع عبوات مبطنة بالنحاس قادرة على اختراق دروع الدبابات، كما أتقن اللهجة العراقية، التي يجدها العرب الآخرون صعبة للغاية، ويُقال إنه كان يغيّر اسمه في كل مرة يدخل فيها محافظة جديدة، لكن الاسم الذي التصق به كان “ الجولاني”.
بعد فترة وجيزة من عودته، قررت فصائل المقاومة في الموصل أن تبايع أقوى تنظيم جهادي في الساحة: القاعدة، وكان زعيمها في العراق آنذاك الزرقاوي، وهو فلسطيني-أردني اعتقد أن افضل طريقة لهزيمة الأمريكيين تكمن في إشعال حرب أهلية وجعل العراق غير قابل للحكم فتم تقطيع رؤوس عمال الإغاثة، وانفجرت القنابل في الأضرحة والأسواق الشيعية في وسط وجنوب العراق، مما أسفر عن مقتل المئات.
أخبرني أحد السوريين الذين قاتلوا مع الشرع أن صانع القنابل الشاب لم يكن مرتاحًا أبدًا لتجاوزات الزرقاوي، ووفقًا لهذا المصدر، فقد هدد الشرع بقتل أي شخص يعتدي على اليزيديين، الطائفة العراقية القديمة التي اعتبرها الجهاديون من “عبدة الشيطان”.
قد تكون هذه المعلومات محاولة تلاعب إعلامي من حلفائه ولكن لا يبدو الشرع مدفوعا بنفس الكراهية الطائفية التي حملها الزرقاوي، لكنه لم يعارضها علنًا أيضًا، وبحلول نهاية عام 2004، أصبح نائب الزرقاوي، وفقًا للمخابرات العراقية.
ألقت القوات الأمريكية القبض على الشرع أثناء زرعه متفجرات على طريق خارج الموصل في عام 2006، وتمكن في إنجاز مذهل آخر إقناع الاميركيين (وسجانيه العراقيين) بأنه عراقي، متحدثًا بلهجة عراقية بطلاقة، وكان لهذا تأثير كبير على معاملته – فقد نجا من المعسكرات المخصصة للمقاتلين الأجانب، حيث كان يُقيّد المشتبه بهم الجهاديون في العزل.
تم التعامل مع الشرع كجزء من المقاومة المحلية، واحتُجز إلى جانب العراقيين، ونُقل من سجن إلى آخر لعدة سنوات، واكتسب خلال هذه الفترة اتصالات ومفردات إنجليزية.
قضى الشرع وقتا في سجن أبو غريب سيئ السمعة، حيث التُقطت صور للسجناء وهم عراة مكدّسين ومعصوبي الأعين، وقضى وقت آخر في معسكر بوكا، الذي تديره أمريكا، حيث احتُجز عدة رجال أصبحوا لاحقًا شخصيات رئيسية في المشهد الجهادي، بمن فيهم البغدادي، زعيم تنظيم الدولة المستقبلي.
مع بداية عام 2011، كانت أمريكا تسعى إلى تقليص وجودها في العراق، فقامت بإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين، بمن فيهم الشرع، وسرعان ما بدأ هؤلاء في تحويل القاعدة إلى كيان جديد التي أصبحت لاحقًا نواة لتنظيم الدولة، لكن ما لم يكن أحد يتوقعه هو أن الدولة المجاورة كانت على وشك الانفجار.
في فبراير 2011، كتب مجموعة من الأطفال في جنوب سوريا شعارات على جدار، غيّرت مجرى التاريخ.
كان المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية قد أطاحوا لتوّهم بالحاكمين الاستبداديين في مصر وتونس، وكان كثيرون يعتقدون أن هذا لن يحدث في سوريا، لأن نظامها كان أكثر وحشية، لكن أطفال درعا تحدّوا دكتاتورهم طبيب العيون، وكتبوا: “إجاك الدور يا دكتور”، وعندما قامت الأجهزة الأمنية باعتقالهم وتعذيبهم، اندلعت انتفاضة شعبية.
شعر الشرع ان الحدث بدأ يفوته.
قاد الثورة كتّاب وسياسيون ونشطاء في البداية، وكثير منهم كانوا علمانيين وكان الشرع مصممًا على أن يكون أول جهادي يفرض أجندته، فكتب مقترحًا من ثلاثين صفحة لإنشاء فرع لدولة العراق في سوريا، أسماه النصرة، وأرسله إلى البغدادي عبر وسطاء، وعندما التقيا أخيرًا، أقنع الشرع البغدادي بأن الأولوية يجب أن تكون لـ”الشام”، وهو الاسم الذي أطلقه الخلفاء الأوائل في القرن السابع على سوريا.
اقتنع البغدادي، وفي صيف ذلك العام، انطلق الشرع مع مجموعة صغيرة مكونة من ستة رجال إلى سوريا، جميعهم يحملون هويات مزورة ويرتدون أحزمة ناسفة تحسبًا لاعتقالهم.
منح البغدادي فريق الاستطلاع التابع للشراء مبلغ خمسين ألف دولار شهريا لتغطية النفقات لمدة ستة أشهر، وقادوا سيارتهم عبر نهر الفرات إلى بلدة الشحيل في شرق سوريا، التي كانت تتحول إلى ملاذ للإسلاميين والقبائل الهاربة من دبابات الأسد.
بدأ بعض عناصر المعارضة السورية في حمل السلاح في ذلك الوقت، لكن لم تكن هناك مقاومة عسكرية منظمة بعد.
كانت عائلات المتظاهرين الذين قُتلوا في الشوارع تبحث في الشحيل عن الانتقام، وبدا أن جماعة الشرع توفر لهم ذلك.
يتذكر أحد الإسلاميين المحليين الذين استقبلوا المجموعة أن الشرع كان يلوّح برزم من المال، وعندما سُئل عن الغرض منها، أجاب بكلمة واحدة: “مفخخ” – أي عمليات انتحارية وبدأ بشراء الديناميت، الذي كان يُباع في السوق المحلية لأغراض تفجير الحجارة في المحاجر.
جال الشرع في مدن سوريا على مدار الأشهر التالية، يدرّب المتمردين على صنع القنابل، وجرت أول عملية في 23 ديسمبر 2011 حيث قامت امرأتان بقيادة سياراتهما إلى مبانٍ حكومية في العاصمة، وبعد بضعة أسابيع، نفّذ انتحاريان آخران هجمات في دمشق وحلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، مما أسفر عن مقتل العشرات.
وفي الثالث والعشرين من يناير 2012، نشر أحد أعضاء النصرة مقطع فيديو على منتدى جهادي، يعلن فيه عن وجود الجماعة، ويُعرّف قائدها (باستخدام لقب الشرع حينها، “الجولاني”)، ويتبنى المسؤولية عن الهجمات، وزُعم أن الفيديو يُظهر أحد الانتحاريين وهو يلقي رسالته قبل تنفيذ العملية، محذرًا: “الجهاد الآن في بلدكم”.
على مدار الأشهر الستة التالية، شهدت مدن سوريا انفجارا انتحاريا واحدا في الأسبوع في المتوسط، وتبنت النصرة أكثر من نصفها، واستهدفت معظم الهجمات البنية التحتية الأمنية للنظام.
يقول حيد الحيد، الخبير في الشأن السوري بمعهد تشاثام هاوس: “لا يوجد دليل مباشر على أن جماعة [الشرع] أرسلت سيارات مفخخة إلى مناطق مدنية”، لكن مئات المدنيين قُتلوا كنتيجة جانبية للهجمات على المباني التي كان يتردد عليها عناصر الأمن، بما في ذلك أحد المطاعم.
كان الحزب اللبناني، أول جماعة إسلامية تستخدم التفجيرات الانتحارية واستغرقت الجماعة سنوات في إعداد منفذي العمليات، مع وعود بحياة أفضل في الآخرة، ويُقال إن حركة المقاومة كانت تستغرق شهورًا، أما الشرع، فقد كان يفخر بقدرته على تحويل المبتدئين إلى قتلة خلال بضعة أسابيع فقط، وقال: “هذه بديلنا عن الطائرات الحربية”.
لقد ألحق بالفعل ضررًا بالنظام أكثر من الجماعات المسلحة التقليدية وانتشرت النصرة في الريف بينما حافظ الأسد على سيطرته على مدنه، ووفرّ العفو غير المتوقع الذي أصدره النظام لمئات الجهاديين بعد اندلاع الانتفاضة مباشرةً خزانًا من المجندين المستعدين للانخراط في صفوف المقاتلين.
في البداية، كان العديد من السوريين يشككون في الجهاديين بينهم، ويلقون عليهم اللوم في اختطاف ثورة بدأت سلمية، لكن مع تصاعد وحشية النظام، جراء إلقاء البراميل المتفجرة إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، ازدادت شعبية المتشددين، وهتف المصلون باسم الجولاني في المساجد في يوم الجمعة الذي أعقب إعلان أمريكا رسميًا تصنيف زعيم النصرة كإرهابي في ديسمبر 2012.
بدأت مساحات واسعة من الأراضي تفلت من قبضة النظام، ولم يكن أحد يعرف الهوية الحقيقية للقائد المرتبط بالعمليات الدموية للمتمردين.
كان البعض يعتقدون أن الجولاني مجرد خيال اخترعه النظام لتشويه الثورة، ولم تكن تعرف عائلة الشرع، التي كانت لا تزال تعيش في مجمع النخبة الحاكمة، ان ابنها هو زعيم النصرة، واعتقدوا أنه مات حتى نهاية عام 2013، حينما ظهر في ديسمبر من ذلك العام في مقابلة مع قناة الجزيرة القطرية وظهره إلى الكاميرا، واستمر في استخدام اسمه الحركي، لكن من عرفوه تعرفوا فورًا على صوته الهادئ.
كانت المقابلة أول خطوة للشرع نحو الظهور العلني. كانت النصرة قد اختطفت عمال إغاثة وصحفيين أجانب، لكن مذيع الجزيرة تعامل معه بلطف، وخاطبه الفاتح.
بدأت النصرة في الازدهار، بدعم من غنائم الأراضي التي استولت عليها، خاصة حقول النفط في شرق سوريا.
في الموصل، تلقى البغدادي تقارير تفيد بأن الشرع يتصرف كما لو كان زعيمًا مستقلًا، وليس تابعًا، فاستدعاه للقاء، وذهب الشرع إلى الموصل، وقدّم للبغدادي جزية قدرها مليوني دولار، وأعاد طمأنته بالولاء قبل أن يعود إلى سوريا، لكن البغدادي شعر أنه يستحق المزيد، وأرسل قواته إلى سوريا في عام 2013، للاستيلاء على حقول النفط من النصرة، وأصدر رسالة صوتية أعلن فيها أن جماعة الشرع قد حُلّت ودمجت في كيان جديد، وهو دولة العراق والشام.
سارع الشرع بالرد، وندد بجماعة البغدادي وأعلن ولاءه المباشر لزعيم القاعدة الظواهري – وهو أمر لم يكن الظواهري نفسه على علم به مسبقًا، وهكذا، دخل أقوى زعيمين في الجهادية العربية في صراع شرس؛ ولم يكن هناك سوى واحد منهما سينجو منه.
في البداية، لم يكن هناك تكافؤ في القوة حيث طرد مقاتلو الدولة النصرة من المناطق التي كانت تسيطر عليها في جنوب وشرق سوريا، ولم يبقَ لها سوى إدلب، ثم، في يونيو 2014، سيطر البغدادي على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، وأعلن نفسه حاكمًا على “خلافة” تضم 8 ملايين شخص تمتد عبر العراق وسوريا وكانت الرقة، الواقعة على الضفة الشمالية لنهر الفرات السوري، عاصمتها.
انجذب معظم الجهاديين في سوريا إليه، وبحسب أحد قادة المتمردين، تُرك الشرع ليواجه تقدم تنظيم الدولة في الشرق بعدد قليل من الجنود وهرب مع مجموعته في شاحنة تويوتا واحدة في النهاية.
لم تتبق أمامه سوى إدلب، وهناك بدأ رحلته الاستثنائية من مدرب تفجيرات انتحارية إلى زعيم في طور التكوين.
كانت أولويته وقف نزيف الدعم بين المقاتلين الجهاديين، وأجرى مقابلة أخرى مع الجزيرة في مايو 2015، أكد فيها ولاءه للقاعدة، كما حاول رسم هوية مميزة لمشروعه، تميزه عن البغدادي.
ظل الإسلام والشريعة في صدارة اهتمامه، لكن مع التركيز على سوريا، وليس على الحرب العالمية ضد الغرب، وبقي معظم المقاتلين الأجانب مع البغدادي، لكن الشرع تمكن من الاحتفاظ بـ 800 أردني، وحوالي 1500 من الأوزبك والإيغور.
اكتسب الشرع سمعة بكونه منضبط رغم ضعف قواته.
كانت عناصر قواته يتقاضون رواتب جيدة ونادرًا ما طلبوا رشاوى على عكس المتمردين الآخرين.
ويقول مسؤول في الأمم المتحدة تفاوض معهم بشأن الوصول الإنساني، كان قادة مجموعة الشرع معروفين أيضًا بوفائهم بكلمتهم: “كنا نثق في ‘نعم’ التي يقولونها على عكس الآخرين”.
مثلت أراضيه ملاذًا، نوعًا ما، للسوريين الآخرين، فقد كانت إدلب مكانًا يشعر فيه المقاتلون المتمردون غير المرتبطين بـتنظيم الدولة بالأمان النسبي مع تقسيم معظم أنحاء البلاد الأخرى بين نظام الأسد الدموي وتنظيم البغدادي.
حصل الشرع على حصة – قُدّرت بنسبة 20% من قبل مراقب محلي – من الأموال والأسلحة التي تلقتها المجموعات المتمردة الأخرى من السعودية وقطر وتركيا.
كان هؤلاء المقاتلون بحاجة إلى مكان للإقامة، لذلك تم طرد ثلاثة آلاف مسيحي كانوا يعيشون في وسط مدينة إدلب من منازلهم على يد لجنة “الغنائم” التابعة للنصرة، وتم القضاء على رموز المسيحية الأخرى في المدينة، حيث تم حظر عيد الميلاد، وأغلقت الكنائس، وأُزيلت الصلبان النحاسية التي تزين أبوابها، كما تم اقتلاع فسيفساء عمرها 1500 عام تصور مشهدًا من الكتاب المقدس من جدار إحدى الكنائس.
ألقى ممثلو الشرع باللوم لاحقا على مسؤولين مارقين في عمليات التدنيس هذه، لكنهم لم يبدوا نفس التحفظ عندما تعلق الأمر بطرد سكان المدينة العلويين القلائل.
يقول مسؤول في الأمم المتحدة إن رجال الشرع كانوا يستهدفون بشكل روتيني سائقي الشاحنات العلويين الذين يحاولون دخول إدلب عند نقاط التفتيش، حيث قاموا بقطع أصابعهم وأصابع أقدامهم، وأمروهم بالعودة من حيث أتوا.
منح الشرع صلاحيات واسعة للمتعصبين الذين لم ينشقوا لصالح تنظيم الدولة وقام أحد مساعديه، الويسي – الذي أصبح لاحقًا وزير عدله – بتنفيذ إعدام علني وفقًا للشريعة، حيث أجبر امرأة متهمة بالدعارة على الركوع على جانب الطريق قبل أن يتم إطلاق النار عليها، كما أعطى الشرع مقاتلًا تونسيًا السيطرة على عدة قرى يسكنها الدروز، حيث ارتكب مجزرة قتل فيها 20 شخصًا.
بحلول عام 2016، كانت القوى المختلفة التي اجتمعت لدحر تنظيم الدولة تحقق تقدمًا، وكانت روسيا قد دخلت الحرب السورية في نهاية العام السابق، وتعرضت الرقة للقصف المكثف من طائراتها، وبمجرد أن تم القضاء على تنظيم الدولة، بدا أن إدلب ستكون الهدف التالي، وربما بقصف أمريكي أيضًا (حيث وصف المبعوث الأمريكي بريت ماكغورك المحافظة بأنها “أكبر ملاذ آمن للقاعدة منذ 11 سبتمبر”).
أصبح ارتباط الشرع بالقاعدة، الذي تبناه في وقت الحاجة لدعم الجهاديين، عبئًا عليه لذلك نفذ تحوله التالي.
أرسل الشرع في يوليو 2016، مقطع فيديو إلى قناة الجزيرة تحدث فيه مباشرة إلى الكاميرا، كاشفًا عن وجهه لأول مرة، وأعلن أن النصرة لم تعد جزءًا من القاعدة، وبعد بضعة أشهر، أعلن عن تغيير اسم تنظيمه إلى اسم أكثر اعتدالًا، “تحرير الشام”.
هاجم الشرع في يوليو 2017، آخر فصيل متمرد كبير في إدلب لم يكن تحت سيطرته، وطردهم من قواعدهم على الحدود التركية، وأصيب المتشددون بصدمة من خيانته للقاعدة، لكنه اصبح الحاكم المطلق للتمرد في شمال غرب سوريا منذ تلك اللحظة مع بعض المواجهات المتفرقة،
سعى الشرع مع نهاية عام 2017 إلى ترسيخ سلطته، مُعلنًا عن تشكيل نوع من الإدارة المستقبلية، أطلق عليها “حكومة الإنقاذ”.
كانت حكومة الشرع هذه رغم اسمها الفخم تركز في المقام الأول على تعزيز سلطتها – من قوات الأمن المسلحة، والضرائب، والسيطرة الجمركية – بدلًا من تقديم الخدمات العامة، وتقول بعض المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تقدم المساعدات في إدلب، انه كان من المستحيل العمل تحت “الضوابط السامة” التي فرضها الشرع، لكنه نجح في تفويض شؤون الرعاية الاجتماعية لجهات أخرى، وترك للقبائل مهمة إدارة العدالة في القضايا التي لا تهمه بشكل مباشر.
اصبح من الضروري ان يتحدث اليه العالم بعد ان بات يسيطر على الحدود مع تركيا.
كانت إدلب تضم ما يقرب من مليوني لاجئ من مناطق أخرى في سوريا، وكان الغرب حريصًا على إيصال المساعدات إليهم، ليس أقلها لمنع المزيد منهم من عبور الحدود إلى أوروبا، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بتعاون الشرع.
كان الشرع رسميًا عدوًا لأمريكا، مع مكافأة قدرها 10 ملايين دولار وضعت مقابل رأسه ووزعت وزارة الخارجية الأمريكية ملصقات تقول: “أوقفوا هذا الإرهابي”، لكن في الواقع، كانت لديه علاقة مثمرة مع القوى الغربية والأجنبية الأخرى.
كان الشرع يحتجز الجهاديين المطلوبين، خاصة المقاتلين الأوروبيين، وكانت هناك شائعات بأنه سمح لجواسيس غربيين باستجوابهم في سجونه، ولم تهاجم قواته الكوماندوز الأمريكيين الذين هبطوا بطائرات الهليكوبتر في أكتوبر 2019 لقتل البغدادي، الذي كان يختبئ في ريف إدلب معتقدًا أن أحدًا لن يبحث عنه هناك.
يقول قائد عسكري سوري كان في المنطقة وقت الاغتيال: “كانت لديهم أوامر بعدم إطلاق النار”، وقد نفى الشرع دائمًا التعاون مع أي وكالة استخبارات أجنبية، لكن بعد سقوط الأسد، اعترف رئيس الاستخبارات التركية بالعمل مع “تحرير الشام”.
وافق الشرع على السماح للقوات الروسية والتركية بدوريات على أطراف أراضيه كجزء من اتفاق لتجميد خطوط الصراع، واعتبر المتشددون في صفوفه ذلك استسلامًا مخزيًا، لكنه ساعد في منع هجوم مدعوم من روسيا على إدلب من قبل نظام الأسد.
كما تم القضاء على العديد من خصوم الشرع الجهاديين بواسطة الطائرات المسيرة، لدرجة أن بعض السوريين بدأوا يتساءلون عما إذا كان يعمل مع المخابرات الأمريكية، وعندما مرر متمردون آخرون معلومات عن مكان وجود الشرع إلى جواسيس غربيين، صُدموا من عدم الاهتمام الذي قوبلوا به.
رأى بعض الدبلوماسيين الغربيين والوسطاء أن الشرع يمكن أن يكون جهة اتصال يجب استقطابها، بل حتى تشكيلها.
لقد كان مفتاحًا لاستقرار شمال سوريا، وكان له تأثير على جزء كبير من الحركة الجهادية العالمية.
كان جوناثان باول، كبير المفاوضين البريطانيين السابق في أيرلندا الشمالية، من بين الذين ذهبوا إلى إدلب لمقابلته باعتباره كان يدير منظمة غير حكومية لحل النزاعات.
ووفقًا لمصادر دبلوماسية مطلعة، أوضح بعض هؤلاء الوسطاء الخطوات التي يجب أن يتخذها الشرع لكي يرفع اسمه من القوائم السوداء الدولية، لكن لم يكن الجميع يعتقدون أنه من الصواب التعامل مع شخص ملطخة يديه بالدماء مثل الشرع.
قال أحد العاملين في منظمة غير حكومية: “لقد تحالفنا مع الشيطان وسميناه منقذًا”.
ليس من الواضح إلى أي مدى لعبت هذه المناقشات السرية دورًا في سياساته، لكن إدلب بدأت تبدو أقل شبهاً بدولة دينية متشددة.
استبدل الشرع “الحسبة” (شرطة الأخلاق) بمديرية الأمن العام في عام 2021، وخفف من شرط إغلاق المتاجر أثناء صلاة الظهر، وأصبح يُسمح للمشتبه بهم في القضايا الجنائية بتوكيل محامٍ، كما تحولت “لجنة الغنائم” إلى “مديرية الإسكان العامة”.
كانت الأقليات لا تزال ممنوعة من تولي المناصب الحكومية، إلا أن معاملة الشرع لهم أصبحت أكثر ليونة حيث وعد بحماية الدروز في سوريا (التونسي الذي قتل الكثير منهم قُتل بدوره في غارة لطائرة مسيرة غربية) وأعاد ترميم كنيسة على أطراف إمارته، وكانت وسائل الإعلام القطرية حاضرة لبث مشهد عودة المسيحيين للصلاة فيها.
نمت العاصمة المتواضعة لمحافظة إدلب إلى مدينة مزدحمة في ظل حكم الشرع، واصبحت تضم مدن ملاهٍ ومراكز فنية وجامعة، وتدفقت المساعدات الخارجية، وربطت تركيا المحافظة بشبكتها الكهربائية، مما وفر الكهرباء على مدار الساعة، بينما كانت الأضواء في العاصمة تضيء لساعتين فقط يوميًا وحلّ الدولار والليرة التركية محل الليرة السورية المتهاوية، وانتشرت المجمعات السكنية والمناطق الصناعية على التلال، وظهرت مراكز التسوق الفاخرة وصالات عرض سيارات الدفع الرباعي الفارهة على جوانب الطرق، وقام المزارعون بترقية أنظمة الري الخاصة بهم واشتروا حصادات جديدة، وأنشأت إدلب شبكتها الخاصة للهواتف المحمولة باستخدام مشغل أوروبي، واعتمدت رمز الاتصال الخاص بلوكسمبورغ.
كانت إدلب وفقًا لبعض المقاييس، أكثر المناطق ازدهارًا في البلاد (رغم أن هذا لم يكن معيارًا مرتفعًا).
ومع ذلك، لم يكن هناك شيء في حكم الشرع لإدلب، حتى في مرحلته الإصلاحية، يمنح دعاة الديمقراطية في بلاده أي نوع من الارتياح.
أقام الشرع بعض مؤسسات الحكم، مثل مجلس الشورى، لكن عمليًا، كان “رجل واحد يدير كل شيء بمفرده”، كما قال أحد السوريين الذين أشرفوا على مشاريع تنموية تحت حكمه وكان الوزراء ينفذون أوامره تحت مراقبة رجال من الظل، ولم تشغل أي امرأة منصبًا سياسيًا.
تم اعتقال المنتقدين، ويقول بلال عبد الكريم، المدوّن الإسلامي الأمريكي، الذي تم اعتقاله عام 2020 بتهمة “نشر الأكاذيب والترويج لها” “كل يوم من كل أسبوع تقريبًا، كنت أضطر إلى الاستماع إلى صرخات التعذيب على بعد أمتار قليلة مني”، وتقول الأمم المتحدة، انه تم تنفيذ أحكام إعدام في إدلب بتهم الردة والزنا حتى عام 2020.
لم يكن الشرع يحكم بنفس النرجسية والقسوة التي حكم بها آل الأسد رغم وحشيته وجوعه للسلطة.
كانت زنزانته تحتوي على عشرات السجناء السياسيين، وليس عشرات الآلاف، ولم يكن هناك أي صور له معلقة في أي مكان.
قبل عام تقريبًا من تقدمه نحو دمشق، سار الجهاديون في شوارع إدلب وهم يهتفون “قاتل المجاهدين!” مطالبين بسقوطه، لكن لم يُقتل أي منهم، وعندما زرتُ بلدة قريبة من الحدود التركية في ديسمبر، رأيتُ كتابات على الجدران تلعن الشرع وتصفه بـ”الخائن”، وقد بقيت هناك لأشهر دون أن تُزال.
بحلول عام 2024، شعر الشرع أن اللحظة مناسبة لتوسيع نطاق سيطرته، فقد كان الأسد يعتمد بشكل كامل على الدعم العسكري من روسيا وإيران، اللتين أضعفتهما حروبهما الخاصة.
استدعى الشرع ممثلين عن مختلف الفصائل المتمردة لاجتماع في أبريل، واحتشد حوالي 150 رجلًا في غرفة مزودة بكراسٍ ضخمة مبطنة باللون الأبيض، وقال لهم “نظام الأسد يضعف. استعدوا للهجوم”.
كان من المفترض أن تضمن تركيا بقاء قوات الشرع ضمن حدودها، لكن الأتراك كانوا قد ضاقوا ذرعًا بالأسد، فقد كانوا يحاولون التفاوض على استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا وإعادة بعض اللاجئين الثلاثة ملايين المقيمين في تركيا، لكن الأسد كان يماطل، وفي مرحلة ما أواخر عام 2024، أعطى الأتراك الضوء الأخضر للشرع للسيطرة على حلب.
عندما بدأ الهجوم، لجأ الشرع إلى صديق طفولته القديم، أحمد، لتسهيل المهمة.
كان الأحمد ذكيًا وجذابًا ومتحدثًا بارعًا، وقد ساعد قبل عقد من الزمن، في ترتيب اتفاقيات لخروج المتمردين من المدن والبلدات المحاصرة من قبل النظام، وكان يُنظر إليه من قبل الكثيرين في المعارضة على أنه انتهازي متواطئ في تكتيكات التجويع التي استخدمها النظام، لكنه كان في موقع مثالي ليكون قناة تفاوض مع الأجهزة الأمنية القلقة للنظام.
ابلغ الأحمد مجلة 1843 إنه نقل رسالة إلى كبار القادة العسكريين في حلب مفادها: “لن يلاحقكم رجال الشرع إذا انسحبتم” وسرعان ما سقطت المدينة، وتمكن أحمد وسط الفوضى، من تأمين خروج 630 طالبًا من الأكاديمية العسكرية في المدينة.
واصلت القوات تقدمها، وانهارت خطوط النظام بسرعة مذهلة.
يقول الاحمد ان الشرع كان مستعدًا للقتال لمدة عام و “لم يكن يتوقع هذا الانهيار السريع”.
استمر الأحمد في الاتصال بجنرالات النظام، محذرًا إياهم من أن “جنودهم سيصبحون حطبًا للنار القادمة”، وكان قائد تحرير الشام يرسل له التحديثات يوميًا وقال لصديقه “سنجعل هذا أفضل بلد على الإطلاق!”.
بعد أيام فقط من سقوط حلب، استطاع الأحمد أن يزف للشرع الخبر الذي كان ينتظره: “الطريق إلى دمشق مفتوح”.
وقفت قوات الحرس الجمهوري، نخبة الأسد العسكرية، جانبًا، وتخلى الجنود المكلفون بحماية مكاتب كبار المسؤولين عن مواقعهم، قائلين “نحن آسفون”، وفرّ الأسد إلى موسكو، وكان الشرع، الذي طالما امتلك موهبة إقناع الناس، قد أتم أكبر صفقة في حياته.
لم تكن قوات تحرير الشام أول من دخل دمشق، لكنها كانت القوة الأبرز في التحالف المتمرد.
كان مقاتلو الجنوب هم من اقتحموا العاصمة وألقوا القبض على رئيس وزراء الأسد، وعندما وصلت تحرير الشام، سُلّم إليهم، وسرعان ما عرض تسليم السلطة رسميًا لحكومة الشرع في إدلب.
دمشق عالم مختلف عن إدلب، ذات الطابع المحافظ دينيًا والتي أنهكتها الحرب. تنتشر فيها قصور فاخرة وبارات أنيقة تتناثر في أزقتها، و يتلألأ المسجد الأموي، التحفة المعمارية التي يعود تاريخها إلى 1300 عام، بفسيفسائه الذهبية.
وقف الشرع والأحمد في 8 ديسمبر 2024 أمام بعضهما البعض للمرة الأولى منذ سنوات، مذهولين.
اندهش شباب إدلب من النساء غير المحجبات، وحدّق المقاتلون السلفيون بإعجاب في الأزقة المرصوفة بالحصى وساحاتها القديمة.
كانوا يجوبون الشوارع في الليل، يتفحصون نوافذ الحانات، قبل أن يواصلوا طريقهم ويتركوا الزبائن في الداخل بسلام وهتف بعضهم “في صحتكم!”، ولم تحدث المجزرة التي كان النظام يحاول إقناع الدمشقيين بأنها حتمية.
لم يكن أحد يفتقد الأسد، وبدأ أصحاب المتاجر وسائقو سيارات الأجرة بإنزال صوره، وبحث البعض عن صورة للشرع ليضعوها بديلًا، لكن لم تكن هناك أي صورة متاحة.
قال لي أحد المصرفيين السوريين “لقد اعتادوا على وجود طاغية لدرجة أنهم لا يستطيعون العيش بدونه”، وبدأ سكان دمشق العاديون في التحدث بلكنة إدلبية، وأصبحت السيارات ذات لوحات إدلب أكثر قيمة.
لكن وسط احتفالات النصر والأمل، كان هناك قلق، فكيف سيكون رئيس تحرير الشام الغامض كحاكم؟
تخلى الشرع عن اسمه الحركي عندما عاد إلى دمشق، وقدم نفسه للعالم باسمه الحقيقي.
كانت تصريحاته العلنية محسوبة لطمأنة الجمهور الغربي الليبرالي، رغم افتقارها إلى التفاصيل، واستبدل زيه العسكري ببدلة وربطة عنق (يقال إن أول ربطة عنق له أعطاها له صحفي تلفزيوني عربي، مشيرًا إلى أنه سيحتاج واحدة)، وكان يخاطب شعبه قائلا “سوريون وسوريات” في خطوة مدهشة بالنسبة لزعيم جهادي.
تحدث القائد الجديد بدبلوماسية عن إسرائيل، حتى في الوقت الذي استغل فيه العدو القديم لسوريا سقوط الأسد للاستيلاء على الأراضي.
لقد صدم المتشددين السلفيين عندما ظهر برفقة زوجته أمام الكاميرات دون أن تغطي وجهها، وقال كل ما ينبغي قوله عن وحدة جميع السوريين، سواء كانوا سنة أو مسيحيين أو علويين أو دروزًا، والتقى مرتين وبرعاية أمريكية، بالزعيم العسكري لأكراد سوريا.
لكن في القضايا الشائكة مثل الديمقراطية والشريعة الإسلامية، كان يميل إلى المماطلة والتملص، ووافق على عقد مؤتمر وطني حول العدالة الانتقالية والتعايش تحت ضغط زواره الأجانب الكثر، الذين كان يحاول إقناعهم برفع العقوبات المفروضة على سوريا في عهد الأسد، لكن عندما ضغط عليه الصحفيون للحصول على جدول زمني للانتخابات، كان غامضًا، وقال لأحدهم: “ربما أربع سنوات”، وعندما سُئل عما إذا كان سيسمح للناس باستهلاك الكحول ولحم الخنزير في سوريا، قال الشراع إنها “مسألة ستُترك للجنة من الخبراء”.
في بداية هذا العام، أتيحت لي ولفريق “الإيكونوميست” فرصة لقاء الشرع، بعد وقت قصير من إعلانه أنه سيتولى منصب “الرئيس المؤقت” لسوريا، وعندما دخلنا القصر الرئاسي، فوجئت بمدى كآبته.
كنت أتوقع أن يكون ممره المغطى بالسجاد الأحمر بطول 100 متر مليئًا بالمستشارين – فإدارة بلد كبير متعدد الطوائف مهمة شاقة – لكنه كان خاليًا بشكل غريب.
نُقلنا إلى غرفة جانبية قبالة القاعة الرئيسية، وبعد فترة دخل رجلان، الأول، كان قصير القامة وممتلئ الجسم، وزير الخارجية الجديد، أسعد الشيباني، الذي نظر إلينا بنظرة باردة، أما الآخر، فكان رجلًا طويل القامة، أنيق المظهر، لكنه بدا غريبًا مترددًا – انه الرئيس الجديد لسوريا.
لقد ذكراني بشخصيتي لوريل وهاردي.
كنت أعرف من خطاباته أن الشرع يمتلك صوتًا ناعمًا، لكنني توقعت أن يحمل نوعًا من السلطة الهادئة في حضوره، لكنه في الواقع بدا مترددًا، وتساءلت: أين القائد الذي أقنع الشباب بتفجير أنفسهم وقتل كثيرين آخرين؟ أين زعيم الحرب الذي زرع الرعب في قلوب الميليشيات الأخرى؟ أين الأيديولوجي الذي جعل البغدادي يأتمنه على مهمة غزو سوريا؟
كان يرتدي سترة قطنية أنيقة ولحيته مشذبة بعناية، كما لو كان يستعد لسهرة في بيروت، وأشار إلى ملابسه ثلاث مرات خلال المقابلة، وقال مازحا “لم تعلقوا على مظهري”.
لا يبدو انه كان مرتاحا رغم محاولته إظهار الألفة، وكان يتحرك بعصبية بين الأسئلة، ويفرك أنفه، ويحرك ساقيه باستمرار، وعندما كان يشعر أنه في موقف دفاعي، كان يضم ساقيه تحت كرسيه.
كررنا أسئلتنا بشأن الديمقراطية، وفي النهاية أقر بأن سوريا “تسير في هذا الاتجاه”.
لم يكن هناك أي مساعدين يقدمون لنا الشاي أو القهوة أو البسكويت على عكس التقاليد العربية في كرم الضيافة، ربما لأن اليوم كان الجمعة، يوم التقوى، أو ربما لأن حاشيته كانت تنتظر لترى ما إذا كانت أسئلتنا تستحق الترحيب.
في نهاية الأمر، لم يكونوا معجبين بأسئلتنا، وعندما سألناه عن حقوق المرأة، تمتم كبير موظفي وزير الخارجية بغضب: “كليشيهات! استشراق! عدوانية!”، وعندما ذُكر موضوع إسرائيل، قاطعنا مساعد وقال إن المقابلة ستنتهي خلال خمس دقائق.
أشاد بعض محاوريه بمرونته في الاستماع إلى اقتراحات الآخرين، وبدا بالفعل مطيعًا لوزير خارجيته، وقال لنا بالإنجليزية وهو يعتذر: “عليّ الذهاب الآن”، بينما كان الشيباني يسحبه عمليًا من كرسيه ويخرجه مسرعًا من الغرفة.
يتساءل البعض عما إذا كان الشرع يمهد الطريق لسلالة حاكمة أخرى، فبعد فترة وجيزة من دخوله دمشق، عيّن شقيقه ماهر وزيرًا للصحة، أما صهره، ماهر مروان، فأصبح محافظًا لدمشق، وكانت الحكومة الانتقالية التي شكّلها بعد توليه السلطة في ديسمبر مليئة باشخاص يعرفون بولائهم له، ولم تضم أي علويين أو أكراد أو دروز.
وقال دبلوماسي أوروبي إن حكمه يتميز بـ “الإدارة الدقيقة في اصغر الأمور، لا تفويض، لا ثقة”.
ويبدو أنه بدأ في التعلق بالبذخ، ففي فبراير، نشرت إدارته الإعلامية صورًا له وهو يمتطي حصان الأسد الأسود، ولاحظ عشاق الساعات أنه استبدل ساعته “سيكو” العملية بساعة فاخرة من “باتيك فيليب”، بينما كان السوريون العاديون يواجهون شتاءً قارسًا مع انقطاع شبه كامل للكهرباء.
وقال أحد عمال الإغاثة مستاءً: “لم نضحِّ بعقد من الموت والدمار والتهجير لنستبدل سوريا الأسد بسوريا الشرع”.
تبدو تحدياته هائلة، فبسبب الحرب، بات حوالي 90٪ من السوريين فقراء، وتم تدمير نصف البنية التحتية للبلاد وتلوح بوادر تمرد في أوساط السلفيين المتشددين الذين ساعدوه في إسقاط الأسد، فقد شن المقدسي، الشيخ السلفي الأردني المؤثر، هجومًا على الشرع بسبب تساهله مع الديمقراطية والقوانين الوضعية.
وقال أحد قادة الفصائل المتمردة، الذي كان من أوائل المرحبين به عند عبوره الحدود العراقية عام 2011: “إنه ليس إسلاميًا، الدين مجرد أداة بالنسبة له. سيبيع البلاد للشيطان إن كان ذلك سيمنحه السلطة”.
ولم يتم الامتثال لجميع أوامره بعدم التعرض للعلويين – فقد أقدم أحد الجهاديين على قتل رجلين اتُهما بالانتماء إلى ميليشيا موالية للنظام على جانب الطريق، وسار متشددون يحملون رايات القاعدة في المدن الساحلية، يهتفون ضد العلويين ويطالبونهم بالمغادرة.
وتبدو القوات التي يعتمد عليها للسيطرة على كل هذا غير كافية، فهناك ثلاثون ألف مقاتل فقط تحت إمرته، وهم منتشرون في أنحاء البلاد.
وقال أحد قادة الفصائل المعارضة: “لم يكن يومًا بهذا الضعف”، كما أنه لم يُظهر قدرة على بناء تحالفات موسعة تدعم حكمه، ووصفه أحد أصدقائه بأنه “نجم موسيقى روك وليس قائدًا”.
ومما يزيد من الشعور بعدم الاستقرار أن قوات الأمن التابعة للنظام القديم قد تم حلها، ورغم وعوده بإعادة الشرطة إلى مواقعها، لم يتم تنفيذ ذلك حيث تمت دعوة الأفراد للتقدم بطلبات لإعادة التوظيف، لكن العملية غير شفافة ويُقال إنها تميّز ضد العلويين، وفي ظل هذا الفراغ، بدأت المجتمعات المحلية في تشكيل قوات حراسة خاصة بها.
كان خالد الأحمد، صديق طفولة الشرع، يعمل مع مثقفين سوريين بعد سقوط الأسد، على وثيقة حقوق تُسمى “الطريق إلى دمشق”، تضع تصورًا لسوريا ما بعد النظام تضمن حقوق الأقليات، وقد أرسلها إلى الشرع عبر تطبيق “سيغنال”، لكنه لم يتلق أي رد.
ومع ذلك، كان الأحمد مبتهجًا بسقوط النظام، وقام برحلات عدة إلى دمشق للقاء الشرع، والتفاوض حول شروط استسلام شخصيات من النظام القديم، لكنه عاد من كل زيارة أكثر إحباطًا، إذ لاحظ أن الحكومة الجديدة أكثر طائفية من نظام الأسد.
قال لي بعد رحلته الرابعة: “الشرع لا يزال يحمل عقلية القاعدة حيث يريد تحويل إسقاط الطاغية إلى نصر سني ضد العلويين”، لكنه أضاف بقلق: “لكنه غزا البلاد مع التنانين، ولا أحد يدرك مدى خطورتهم… لا يمكنك حكم البلاد مع وحوش التنين حولك”.