
نزار حيدر
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
الأَمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكرِ يُفضِيانِ بشكلٍ طبيعيٍّ إِلى أَمرَينِ اثنَينِ، كالمُتلازِماتٍ العدديَّةِ.
الأَمرُ الأَوَّل؛ هو الإِصلاحُ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُرِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْأُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِتَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
فأَنت عندما تأمرُ وتنهى، وعندما تنتقدُ وتُعارضُ، إِنَّما تهدِفُ من وراءِ ذلكَ إِلى الإِصلاحِ في المُجتمعِ على مُستوى الشَّأنُ العامِّ.
أَي أَنَّك تسعى لإِسقاطِ نمُوذجٍ فاسدٍ وفاشلٍ والتَّرويجِ لبديلٍ نزيهٍ وناجحٍ.
فليسَ من المنطقِ أَن يُعارِضَ المرءُ ليقُولَ أَنِّي أَعترِضُ فحسب! فذلكَ هو الإِستعراضُ الذي لا يُغني ولا يُسمِنُ من جوعٍ، بل أَنَّهُ سببٌ للسُّقُوطِ الأَخلاقي والمُجتمعي.
ولهذا السَّبب قرنَ الإِمامُ الحُسينُ السِّبط (ع) قيامهُ ونهُوضهُ وخروجَهُ ضدَّ الحاكمِ الظَّالمِ الفاسدِ بالهدفَينِ معاً؛ الأَمرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ والإِصلاحُ بقَولهِ في وصيَّتهِ التي تركَها عندَ أَخيهِ مُحمَّد بن الحنفيَّة في المدينةِ {إِنِّي لمْ أَخرُج أَشِراً ولا بطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً [وكلُّ هذا تبرِّي] وإِنَّما خرجتُ لطلبِ الإِصلاحِ في أُمَّةِ جدِّي، أُريدُ أَن آمُر بالمعرُوفِ وأَنهي عنِ المُنكرِ، وأَسيرُ بسِيرةِ جدِّي وأَبي علي بن أَبي طالبٍ، فمَن قبِلني بقَبولِ الحقِّ فالله أَولى بالحقِّ، ومَن ردَّ عليَّ هذا أَصبر حتى يقضيَ الله بيني وبينَ القَومِ بالحقِّ وهوَ خيرُ الحاكِمينَ [وكُلُّ هذا تولِّي]}.
ولذلكَ نُلاحِظُ أَنَّ آيات القُرآن الكريم التي تتحدَّث عن التَّوبة [الإِعترافُ بالخطأِ والتَّراجُعِ عنهُ] يستصحِبُها [الإِصلاح] أَي تصحيحُ الخطأ إِذ لا يكفي أَن يتراجعَ المُذنِبُ عن ذنبهِ من دونِ أَن يُصلِحَ آثارهُ.
تعالوا نقرأَ سويَّةً الآيات التَّالية؛
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ* إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ}.
فهذا النَّوع من المُذنبينَ يكتمُونَ الحقيقةَ ويُخفُونَ المعلُومةَ الصَّحيحةَ عن الرَّأي العام لتضليلهِ، أَمَّا تَوبتهُم عن ذنبهِم فعبارةٌ عن التوقُّفِ عن ذلكَ أَوَّلاً وإِصلاحِ النَّتائج السَّلبيَّة المُترتِّبة على إِخفاءِ المعلُومةِ وكُتمانِها، بالعملِ على إِظهارها وبيانِها، ثانياً.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
إِذن، الإِصلاحُ مطلوبٌ بعدَ التَّوبة والإِعتراف بالخطأ، وإِلَّا فإِنَّ الأَمرَ ناقِصٌ لم يكتمِل، وهو مُخالِفٌ للعقلِ والمنطقِ.
أَمَّا الأَمرُ الثَّاني؛ فهوَ التولِّي والتبرِّي، فالأَمرُ بالمعرُوفِ يُفضي إِلى التولِّي فيما يُفضي النَّهي عن المُنكرِ إِلى التبرِّي.
بمعنى آخر، فإِنَّكَ عندما تتبرَّأ من الحاكم الظَّالِم لا ينبغي لكَ أَن تتوقَّفَ عندَ هذا الحدِّ، فذلكَ هو النَّفي الذي يُنتِجُ الطَّاقةَ السَّلبيَّةَ، بل يلزمُكَ أَن تُعلِنَ الولاءَ لآخرَ عادِلٌ وهو الإِثباتُ الذي يُنتِجُ الطَّاقةَ الإِيجابيَّة.
أَو أَن تكُونَ أَنتَ البديل.
في آياتِ التبرِّي نلحظُ هذا الإِقتران معَ آيات التولِّي، لأَنَّ التولِّي نفيٌ للخطأِ والتولِّي إِثباتٌ للصحِّ.
فالمُعادلةُ لا تستقيمُ بالتبرِّي فقط أَبداً إِذ لا بُدَّ من تقديمِ البديلِ للمُجتمعِ عن طريقِ التولِّي.
فعندما يقُولُ القُرآن الكريم {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يهدي الأُمَّة طريق التولِّي كما في الآيةِ التي صدَّرنا بما المقال.
كذلكَ قولهُ تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ}.
وفي نفسِ الوقت يُحذِّر القُرآن الكريم من مغبَّةِ التولِّي الخطأ كما في قَولهِ تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}.
حتى عندما يتحدَّثُ القُرآن الكريم عن نماذِجَ سيِّئة لزَوجاتٍ سيِّئاتٍ لم يكتفِ بذلكَ وإِنَّما يُقدِّم في نفسِ الوقتِ نموذجاً لزوجةٍ من نَوعٍ آخر.
يقُولُ تعالى عن النُّمُوذج السيِّء {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
وعن النُّمُوذج المُغاير يقُولُ تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وفي نفسِ السِّياقِ يُحدِّثُنا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) عن نماذِجَ مُتقابِلة هي على النَّقيضِ من بعضِها.
يقُولُ (ع) في رسالةٍ إِلى طاغِيةِ الشَّام {فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا ولَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وأَنْكَحْنَا فِعْلَ الأَكْفَاءِ ولَسْتُمْ هُنَاكَ وأَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ ومِنَّا النَّبِيُّ ومِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ ومِنَّا أَسَدُ اللَّه ومِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلَافِ ومِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ومِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ ومِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ومِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وعَلَيْكُمْ}.
٢٠٢٥/٣/١٥