download (2)

ضياء ابو معارج الدراجي

منذ بدء العدوان على اليمن عام 2015، كانت الحسابات الأمريكية والسعودية والإماراتية مبنية على افتراض خاطئ، وهو أن جماعة الحوثيين يمكن القضاء عليها بسهولة خلال أسابيع. هذه التقديرات لم تكن سوى أوهام سرعان ما تحطمت أمام صخرة الواقع العسكري والسياسي الذي فرضه اليمنيون

امس في 15 مارس 2025، أعلنت واشنطن الحرب على الحوثي و تنفيذ ضربات جوية جديدة على مواقع الحوثيين في اليمن، في خطوة تعكس استمرار النهج الأمريكي القائم على القوة العسكرية بدلًا من الاعتراف بالفشل. هذه الضربات جاءت تحت ذريعة تأمين الملاحة في البحر الأحمر، لكنها لم تكن إلا محاولة أمريكية لإنقاذ ماء الوجه بعد أن تحولت جماعة الحوثي من فصيل مقاوم إلى لاعب إقليمي يفرض معادلاته على الأرض.

هذه الضربات لم تكن الأولى، فقد سبقها تدخل مباشر وغير مباشر من قبل التحالف السعودي الإماراتي، إلا أن النتيجة بقيت واحدة: الحوثيون يزدادون قوة، والتحالف يزداد ضعفًا وتخبطًا، والولايات المتحدة تتلقى الضربة تلو الأخرى في منطقة لم تفهمها يومًا.

التجربة الأمريكية في اليمن ليست جديدة على واشنطن، فقد خاضت من قبل حروبًا في بيئات جغرافية مشابهة، وكانت النتيجة دائمًا ذاتها: الهزيمة المذلة والانسحاب.

فيتنام (1955-1975): رغم امتلاك أمريكا لأكبر ترسانة عسكرية في العالم، فشلت في القضاء على المقاومة الفيتنامية التي استخدمت الجبال والغابات لمصلحتها، مما أجبر واشنطن على الانسحاب في مشهد مذل ترك أثره العميق على السياسة الأمريكية لعقود.

أفغانستان (2001-2021): بعد عشرين عامًا من الحرب، لم تستطع أمريكا فرض سيطرتها على حركة طالبان، التي تحصنت في الجبال واستخدمت حرب العصابات، فكانت النتيجة انسحابًا مخزيًا للقوات الأمريكية وسيطرة طالبان على البلاد خلال أيام معدودة.

العراق (2003-2011): رغم نجاح أمريكا في إسقاط النظام الحاكم سريعًا، فإن المقاومة أفشلت مشروعها، وأجبرتها على مغادرة العراق وهي مثقلة بالخسائر.

هذه التجارب تؤكد حقيقة واحدة ان الحروب لا تُحسم بالتكنولوجيا وحدها، والجيوش التقليدية عاجزة عن السيطرة على مناطق وعرة عندما تكون هناك إرادة صلبة تقاتل حتى الرمق الأخير. واليمن هو المثال الأحدث على ذلك، حيث تحصن الحوثيون في الجبال وجعلوا من تضاريس البلاد الحادة درعًا حصينًا ضد أي قوة غازية.

محاولة احتلال اليمن أو إخضاعه بالقوة لم تكن مجرد فكرة أمريكية أو سعودية، بل هي تجربة مرت بها قوى عالمية وإقليمية عديدة عبر التاريخ الحديث، وكلها انتهت بالفشل الذريع.

الغزو العثماني لليمن (1538-1635): رغم سيطرة العثمانيين على أجزاء واسعة من الجزيرة العربية، إلا أنهم فشلوا في فرض سيطرتهم الكاملة على اليمن بسبب المقاومة الشرسة التي واجهوها، مما أدى في النهاية إلى انسحابهم.

الاحتلال البريطاني لعدن (1839-1967): بريطانيا، التي كانت أعظم إمبراطورية في ذلك الوقت، لم تتمكن من إخضاع اليمن بالكامل رغم احتلالها لعدن. وبعد أكثر من 120 عامًا، اضطرت للخروج تحت ضغط المقاومة المسلحة.

الحرب المصرية في اليمن (1962-1967): خلال حكم جمال عبد الناصر، أرسل الجيش المصري عشرات الآلاف من الجنود لدعم الجمهوريين ضد الملكيين في اليمن، لكن الطبيعة الجغرافية للبلاد والمقاومة المحلية استنزفت الجيش المصري، مما جعله يغادر بعد سنوات من الخسائر دون تحقيق أي أهداف حقيقية.

الغزو السعودي لليمن (1934): في معركة الحديدة، حاول الملك عبد العزيز آل سعود فرض سيطرته على أجزاء من اليمن، لكنه فشل في النهاية واضطر إلى توقيع معاهدة الطائف التي اعترف فيها باستقلال اليمن.

العدوان السعودي الإماراتي (2015 – حتى الآن): مع كل هذه الدروس التاريخية، كررت السعودية والإمارات الخطأ نفسه بمحاولة فرض نفوذهما على اليمن، لكن بعد سنوات من الحرب لم تحققا أي انتصار حاسم، بل تكبدتا خسائر اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة.

مصير أمريكا في اليمن هو الفشل رغم قوتها العظمى، كما فشل التتحالف السعودي الإماراتي المدعوم أمريكيا واسرائيلا ،حيث اثبت الواقع أن هذا التحالف تكبد خسائر فادحة على كافة الأصعدة، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

عسكريًا: لم يستطع التحالف تحقيق أي تقدم استراتيجي حقيقي على الأرض، وكل المناطق التي سيطر عليها فقدها سريعًا بعد انسحابات متكررة، بينما الحوثيون انتقلوا من الدفاع إلى الهجوم، واستطاعوا ضرب عمق السعودية والإمارات بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.

سياسيًا: بدلاً من إنهاء الأزمة، ساهم التحالف في تعقيدها، وأصبحت الجماعة التي كانوا ينوون القضاء عليها طرفًا رئيسيًا في أي حل مستقبلي، مما يعني أن جهودهم ذهبت هباءً.

اقتصاديًا: الحرب استنزفت موارد التحالف، وتحولت إلى عبء ثقيل على كاهل السعودية والإمارات، خاصة مع فشل الرهانات على الحسم السريع.

على النقيض من التحالف، خرج الحوثيون من هذه الحرب أكثر قوة وتأثيرًا، فهم لم يدافعوا فقط عن أراضيهم، بل استطاعوا فرض وجودهم كقوة لا يمكن تجاهلها في المعادلة الإقليمية.

تكتيكات قتالية متطورة: اعتمد الحوثيون على مزيج من حرب العصابات والهجمات المباشرة، واستغلوا التضاريس لصالحهم، ما جعل المواجهة معهم مكلفة جدًا لأي قوة معادية.

تطوير عسكري غير مسبوق: تمكن الحوثيون من تطوير قدراتهم العسكرية رغم الحصار، فصنعوا صواريخ وطائرات مسيرة قادرة على ضرب أهداف بعيدة بدقة، وهو ما أثبتته الهجمات التي استهدفت منشآت حيوية في السعودية والإمارات.

حاضنة شعبية قوية: رغم سنوات الحرب والحصار، لا يزال الحوثيون يحظون بدعم كبير في الداخل اليمني، حيث يعتبرهم جزء كبير من الشعب ممثلين عن السيادة الوطنية في وجه التدخلات الأجنبية.

الولايات المتحدة والتحالف اليوم أمام طريقين لا ثالث لهما:

1. التصعيد العسكري: وهو خيار مكلف للغاية وقد يجر المنطقة إلى حرب أوسع، كما أنه لن يؤدي إلى أي نتيجة حاسمة، لأن الحرب أثبتت أن الحوثيين لديهم قدرة على الصمود والتكيّف مع الظروف مهما بلغت شدة الهجمات.

2. الاعتراف بالواقع والتفاوض: وهو الخيار الذي يحاولون تفاديه، لكنه قد يكون الوحيد القادر على إنهاء الحرب بعد كل هذه السنوات من الفشل.

ما يحدث في اليمن اليوم ليس سوى امتداد لحقيقة تاريخية ثابتة: هذه الأرض لم تُهزم يومًا أمام الغزاة، ومن يظن أنه قادر على احتلالها أو فرض سيطرته عليها بالقوة، فإنه لم يقرأ التاريخ جيدًا.

ضياء ابو معارج الدراجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *