download (2)

ضياء ابو معارج الدراجي

في عالم السياسة، قد تُنسى المبادئ، لكن الدماء التي سُفكت تظل شاهدة على من ضحّى ومن خان. ما جرى مؤخرًا في بغداد، عندما استقبل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وزير خارجية حكومة “الإنقاذ السورية”، المدعو اسعد الشيباني، لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل كان خيانة صريحة لتضحيات آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن العراق وسوريا ضد الإرهاب التكفيري.

في 14 مارس 2025، فتحت بغداد أبوابها لرجل يمثل الواجهة السياسية لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ذلك التنظيم الذي لم يكن مجرد فصيل مسلح، بل كان رأس الحربة في استهداف الشيعة والعلويين والمسيحيين في سوريا، وساهم بشكل مباشر في تصدير الإرهاب إلى العراق. لقد كانت النصرة أحد الأذرع الدموية التي قاتلها أبناء الحشد الشعبي جنبًا إلى جنب مع الجيش السوري، وهي التي حاصرت أهالي كفريا والفوعة لسنوات، قبل أن تفجر حافلاتهم بوحشية في “مجزرة الراشدين” عام 2017.

قبل سنوات، كان الخطاب السياسي للقوى الحاكمة في العراق موجهًا نحو “محور المقاومة” والدفاع عن الدماء الشيعية، وكانت الفصائل المسلحة تقدم نفسها كحامية للمقدسات ورافضة لأي حوار مع الجماعات التي تورطت في سفك الدماء. لكن اليوم، نجد أن ذات القوى التي تدعي حماية الشيعة تجلس مع ممثلي الجماعات التي قتلتهم، بل وتقدم لهم عروضًا للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، وكأنهم لم يكونوا سبب دمارها في المقام الأول.

الإطار التنسيقي، الذي يدير المشهد السياسي العراقي حاليًا، يبدو وكأنه يعيش في برج عاجي، بعيدًا عن قاعدته الشعبية التي قدمت أبناءها شهداء في الحرب ضد داعش والنصرة. بينما لا تزال عوائل الشهداء تعاني الفقر والتهميش، نجد أن الحكومة العراقية تمنح الشرعية السياسية لمجرمين كانوا بالأمس يذبحون العراقيين والسوريين على حد سواء.

للمقارنة فقط، عندما كان نوري المالكي رئيسًا للوزراء (2006-2014)، رفض الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز استقباله، بحجة أنه منحاز للشيعة أكثر من السنة. كان المالكي في ذلك الوقت يخوض حربًا ضد القاعدة وبقايا حزب البعث، ويرفض تقديم أي تنازلات للإرهاب.

أما اليوم، فنرى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يستقبل من كان مسؤولًا عن سفك دماء العراقيين والسوريين، ويمنحه وعود لإعادة إعمار سوريا، وكأن أيدي هؤلاء لم تكن ملطخة بالدماء. إذا كان المالكي قد مُنع من دخول السعودية لأنه كان صارمًا في مواجهة الإرهاب، فماذا نقول عن حكومة السوداني التي تمد يدها لمن مثّل التنظيمات التكفيرية؟

إن استقبال الشيباني في بغداد ليس مجرد حدث عابر، بل هو مؤشر على أن السياسة في العراق باتت تُدار بمنطق المصالح الضيقة، حتى لو كان الثمن هو خيانة دماء الشهداء. لكن الشعوب لا تنسى، والتاريخ لا يرحم. من يعتقد أن بإمكانه دفن الحقيقة بابتسامة دبلوماسية أو صفقة سياسية، سيجد نفسه يومًا ما في مواجهة مع ذاكرة لا تموت.

فالدم الذي سُفك لن يُمحى بلقاء، والجرح الذي نُكئ لن يُشفى بتصريح رسمي، وستبقى الحقيقة واضحة: هناك من ضحّى، وهناك من خان، والتاريخ يسجل كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *