الكاتب : ماجد احمد الزاملي
أنًّ النصوص القانونية على إختلافها أي من نصوص دستورية، وتشريعية، ولائحية، تمنح وتتيح للفرد التمتع بحرياته وفق مقتضيات يتطلبها عدم المساس بالنظام العام. ومنها فالنصوص الأولى أي الدستورية لا يثور بشأنها أي إشكال، نظراً لما تحققه من إقرار للحقوق والحريات بصفة عامة. فهذه الأخيرة تجد في كنف النصوص الدستورية أسمى ضماناً لها، بعكس النصوص الأخيرة أي اللائحية منها، والتي لا ينتظر منها في الكثير من الحالات سوى المساس بحقوق الفرد وحرياته، باعتبار أن السلطة القائمة عليها، أي الإدارة تميل في الكثير من الأحيان إلى تقييدها. ولهذا السبب اختصت السلطة التشريعية لإعتبارات عدة بمسألة تنظيم الحقوق والحريات العامة ,غير أن الإشكال الذي يثور في هذه الحالة، هو عندما يمارس البرلمان سلطته التشريعية ليرسي القواعد التطبيقية لإرادة السلطة التأسيسية، من خلال الإلتزام بما يقره الدستور، فإذا به ينحرف عن تلك الإرادة، فيكون إرساء تلك القواعد مشوباً بعدم الدستورية. فعلى الرغم من مبدأ الاختصاص التشريعي في تنظيم الحريات، إلاّ أن المشرع قد يغالي فيما يصدره من قوانين، في تقييد الحرية والانتقاص منها. ومن ثم يثور التساؤل حول معرفة حدود سلطة المشرّع في تنظيم الحرية. فحينما يقر الدستور حرية من الحريات، أو حقاً من الحقوق، ويعطي للمشرع العادي السلطة التقديرية للتدخل بتنظيم كيفية ممارسة هذه الحرية وطرق استخدامها، تدق التفرقة فيما إذا ما خرج المشرّع عن الحدود الدستورية، وأورد قيوداً على تلك الحرية موضوع التنظيم، بين التنظيم المباح للحرية، وبين فرض القيود التي تحول دون التمتع أو تجعل على الأقل ممارستها أمراً صعباً على الأفراد. فيصبح النص الدستوري الكافل للحرية حبراً على ورق لا ضمانة ترجى منه، ولا حق من خلاله يُشَّرع. وغني عن البيان أن إطلاق العنان للحريات العامة بشأن ممارستها قد يفضي إلى نوع من الفوضى والاضطراب، يسود معه بالموازاة مساساً بالنظام العام. فمن اللزوم والحال هذه أن تُنظم الحريات على نحو يُصان معه النظام العام، بحيث تصبح الحرية في حد ذاتها ممكنة ,وعملية ففكرة النظام العام لا تتعارض مع الحريات العامة، بل على العكس من ذلك أن التنظيم هو الذي يوفر لها إمكانية الوجود الواقعي. ومن هنا كان التنظيم، ضرورياً لممارستها. على أن ذلك لا يعني إهدار الحريات والعدوان عليها، وإنما هو عنصر في تعريفها. وإذا كان الأمر مستقراً عليه في عدم إطلاق الحريات العامة بدعوى عدم المساس بالنظام العام، فإن هذا التقييد لا يعني بالمقابل الحد المطلق من ممارسة الحرية. لأن إلغاءها لا يكون أصلاً حتى بتشريع، والذي هو الطريق الأنسب لتنظيمها هذا من جهة, ومن جهة أخرى، كان من الواجب كذلك عدم تعارض ممارسة بعض الحريات مع ممارسة البعض الآخر منها، إذ تُعتبر في هذه الحالة بمثابة ضوابط وحدود على بعض الحريات، تفادياً للتناقض المحتمل حدوثه. وبالقياس على ذلك، فإن هناك نوعا من التعارض بين حرية استخدام الطريق العمومي للمرور، وبين حرية استخدامه في ممارسة حرية الاجتماع العام والتظاهر، أو في التجارة المتجولة. فلا يعقل في مثل هذه الحالة أن يكون التوفيق، بين ممارسة هذه الحريات جميعها في آن واحد وفي نفس المكان. فالأمر هنا سوف يخرج عن طابعه العادي، ويتحول إلى اضطراب وفوضى عارمة قد تشمل باقي الحريات الأخرى. ومن ثم تتأزم الأوضاع، وتخرج عن السيطرة والتحكم فيها. وهو أمر سلبي بالنسبة لممارسة الحريات العامة، خاصة وأن هذه الأخيرة تتنافى وهذه الظروف، لما فيها من تقييد لها. لذلك إستلزم الأمر خلق نوع من الموازنة بين ممارسة هذه الحريات.
يُشكل العقد الاجتماعي، الذي إتَفق الناس عليه طواعيةً، أساساً مرجعياً لجميع الحقوق والواجبات التي تُنظم شؤون الحياة العامة، وبذلك يصبح العقد حلاً توفيقياً بين الإرادة العامة للجماعة والإرادة الفردية؛ للحد من التنافس والتصارع بين المصالح الشخصية التي تُشكل تهديداً لإستقرار المجتمع. فالعقد الاجتماعي في المجمل هو مجموع الاتفاقيات الأساسية في الحياة الاجتماعية وبمقتضاها يضع الإنسان قواه تحت إرادة المجتمع؛ بحثاً عن تحقيق الإستقرار وحمايةً لمصالحهِ، وذلك تجنباً للصراعات والنزاعات التي تُشكل تهديداً لتلك المصالح. ويُعطي جون لوك صيغة جديدة للنظرية التعاقدية في الدولة، وهي صيغة منسجمة مع الحاجات السياسية في إنجلترا بعد عام 1688، وقد استمد لوك أفكاره والأسس التي أقام عليها نظرياته من هوبز، ولكنّ هناك فارقاً كبيراً بينهما، فقد اعتمد هوبز على الحالة الطبيعية وعلى مفهوم العقد ليقيم الفردية الاستبدادية، في حين اعتمد لوك على الحالة الطبيعية والعقد لِيُنشيء الفردية المتحررة . ويرى المفكر جان جاك روسو، أن الرغبة في الوحدة هي التي أدت إلى هذا العقد الاجتماعي، والمقصود بالوحدة هي وحدة الجسم الاجتماعي، أي تبعية المصالح الخاصة للمصلحة العامة، والعقد عنده ليس عقداً بين الأفراد مثلما يراه هوبز، ولا عقداً بين الأفراد والحاكم كما يراه لوك، ولكنه أعطاه شكلاً آخر، بحيث يَتَّحد كل شخص مع الكل بموجب العقد، والعقد معقود مع المجموعة، وبناءً عليه ، نجد أن الحاكم لا يتقيد بأي شيء؛ لأنه ليس طرفاً في العملية، ومن جهة أخرى لا يمكن أن تكون هناك مصلحة منافية لمصلحة الأفراد الذين يشكّلون هذا الكل، والحاكم هنا هو هذه الإرادة العامة التي هي إرادة المجموعة لا إرادة الأعضاء الذين يؤلفون هذه المجموعة. اما في عصرنا الراهن فان الذي يحافط او يضمن بقاء الدولة هو الدستور . فالقانون الدستوري يعني دراسة القواعد القانونية لنظام الحكم، بينما تعني الأنظمة السياسية بمختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والواقعية التي تؤثر في هذه القواعد. فتحليل أي نظام سياسي في دولة ما يتطلب اليوم تحديد تلك القوى المختلفة التي تُشارك في ممارسة السلطة بطريق مباشر أو غير مباشر، أي سواءً كانت قوى رسمية أقامها الدستور، أو قوى فعلية توجه السلطة بطريق غير مباشر. ومن هذه التفرقة بين المصطلحين، تجاوز القانون الدستوري أزمته التي عرّفها خلال منتصف القرن العشرين في أوروبا، والتي تمثلت خاصة في أن الدساتير المكتوبة كانت ضعيفة وعديمة الارتباط بالواقع العملي للحياة السياسية، مما جعل دراسة المؤسسات السياسية وربطها بالقانون الدستوري والواقع الاجتماعي ومظاهره كالأحزاب والنقابات والجمعيات أمراً لا مفر منه. ولهذا لا يمكن اعتبار موضوعات كتلك المتعلقة بالحريات العامة للمواطن من بين المسائل ذات تلك الأهمية تستلزم بالأساس على ذلك مناقشة عامة لجميع نواب الشعب، مع مراعاة أن الأصل هو ممارسة هذا الأخير لسلطة التشريع، على الأقل عن طريق ديمقراطية شبه مباشرة بأغلبية في أقل الأحوال. لكن وفي ظل تعذر ذلك في أغلب الأحيان، كان لابد من ديمقراطية نيابية. فلا يتصور إذن الانتقاص من تلك الأغلبية في كل مرة، حتى ونحن بصدد ديمقراطية نيابية. فالأمر على غير مقتضاه، خاصة وأن التمثيل النيابي للشعب عن طريق البرلمان، بمثابة آخر وأدنى درجة للتمثيل الفعلي للإرادة الشعبية. ومن هنا كان من الواجب تعميم المناقشة على جميع النواب، على اختلاف وتباين كتلهم السياسية، أو على الأقل عدم اقتصارها على البعض منهم، إذا تعلق المشروع أو المقترح بحرية ما، أو مسألة تتعلق بها.
أنَّ دراسة القضاء الدستوري في كل مراحل الدراسات القانونية المعمَّقة أصبحت ضرورة ملحة تقتضي التطرق إلى تفاصيل هذا الجزء الهام من الدراسات الدستورية من خلال معرفة مفهومه وأسسه وارتباطه بمبدأ سمو الدستور وضمانات الحفاظ على هذا السمو بواسطة الرقابة على دستورية القوانين بمختلف صيغها وأساليبها وممارستها عن طريق الدعوى الدستورية. ثم يجدر دراسة النظام الانتخابي والمنازعات الانتخابية بتحليل طرق وأساليب ممارسة العملية الانتخابية ومختلف المنازعات الانتخابية التي تطرحها هذه الممارسة على كل المستويات الانتخابات في المجال السياسي، الرئاسية والتشريعية والمحلية، ليتم التفصيل أخيراً في منازعات الأحزاب السياسية. اختــلاف درجــة الالتــزام أو التعهــد الدســتوري بإمــداد الحقــوق الاجتماعيــة فــي مجموعــة مــن الــدول العربيــة. لا يمكــن التعامــل مــع النظــم الدكتاتوريــة كوحــدة واحــدة، نظــرا لاختــلاف درجــة تركــز الســلطة مـن نظـام لآخـر، والـذي يخلـق نوعـا مـن المفاضلـة بيـن اسـتخدام لآليتـي القهـر وشـراء الـولاء لمواجهــة التهديــدات المحتملــة للنظــام، وهــذا بــدوره يؤثــر علــى دوافــع الحاكــم عنــد اتخــاذ السياســات المتعلقــة بالإنفــاق العــام. عـدم وجـود علاقـة ارتبـاط قويـة بيـن مؤشـر الحقـوق الاجتماعيـة ومؤشـر تركّـز السـلطة مـن جانـب، ووجـود علاقـة ارتبـاط قويـة وموجبـة بيـن نفـس المؤشـر ومؤشـر القهـر السياسـي، ممـا يثيـر تسـاؤلاً حـول مـدى تأثيـر هـذه التفاصيـل المؤسسـية علـى سياسـات الإنفـاق العـام الفعلــي فــي النظــم الدكتاتوريــة، وبالتالــي اختبــار فرضيــات الدراســات علــى الإنفــاق العــام الفعلـي ومكوناتـه المختلفـة وليـس فقـط مـدى الإلتـزام أو التعهـد الدسـتوري بإمـداد الحقـوق الاجتماعيـة. في الولايات المتحدة الأمريكية، فان ايجاز الدستور وعمومية الفاظه وعدم تحديدها يترك الفرصةَ واسعةً لفرض تفسيرات ومفاهيم القضاة بوصفهم الجهة المنوط بها تفسير نصوص الدستور عند إنزال احكامه على القانون، واذا كنا قد اوضحنا مدى امكانية فرض القاضي لإرادته عند تفسير القانون، والحال هنا عند تفسير الدستور أوضح والأكثر اتفاقاً مع طبيعة الدستور الموجزة والفاظه التي تتسم بالعمومية وعدم التحديد، ومن هنا يبرز دور القاضي الدستوري لفرض تصوراته وتقييمه للنصوص الدستورية.