دراسات عن مشتركات الديانتين الاسلامية والمسيحية (ح 4)‎

الكاتب : فاضل حسن شريف

وضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسس التعايش السمح بين مكونات “الوطن” الجديد، تمثُّلا للتوجيهات القرآنية عَقَديا ومجتمعيا: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة 256) و”لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة 8)، وطبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في سنته العملية، فكان يزور مرضى اليهود، ويقوم احتراما لجنائزهم، صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل وفد نصارى نجران  في مسجده ‏وحانت صلاتهم فصلوا فيه”، وأنه “يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين”  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك”‏ كان ‏إمام المغازي محمد بن إسحق  “يحمل عن اليهود والنصارى ‏ويسميهم في كتبه ‘أهل العلم ‏الأول‘”  بأنه لما أصدر الخليفة العباسي المتوكل  سنة 235هـ/849م قراراته التمييزية بحق غير المسلمين كان منها أنه “نهى أن يتعلَّم أولادُهم في ‏‏‏كتاتيب المسلمين و(أمر) ألا يعلِّمَهم مسلم” ويدل هذا على أن جميع أصحاب الديانات كانوا يشتركون في أماكن التعليم‏ ما حكاه السيوطي  -في ‘بُغية الوُعاة‘-عن شمس الدين محمد بن يوسف الجَزَري الشافعي القُوصي  من أن “انتصب للإقراء فقرأ عليه ‏المسلمون واليهود والنصارى، وولي خطابة الجامع الطولوني (بالقاهرة)، وقرأ عليه ‏التقي السبكي  وروى عنه”‏ كان “ديّان اليهود، وكان يحب المسلمين ‏‏ويحضر مجالس الحديث وسمّعه (محدّث الشام الحافظ) المزّي، ثم هداه الله تعالى وأسلم” ومع شهود “مجالس سماع الحديث”، كان بعض ‏المسيحيين واليهود يحضر “جلسات السماع الصوفية” بين المسلمين، ولذا حكى الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن “مقدَّم الطائفة الحريرية” الشيخ أبو الحسن ‏الحريري  ‏”نهى أصحابه عن غلق الباب وقت السّماع حتى عن اليهود والنصارى”.

في التاريخ الاسلامي نوعين من الفتوحات فتح بالقوة والقهر فافتى علماء اما ترك الكنائس على حالها او تغير وظيفتها. أما الفتح والسيطرة على البلدان بالتفاوض فالالتزام بشروط الصلح. وفي كلتا الحالتين فان العلماء افتوا بحماية دور العبادة لغير المسلمين خلال السلم والحرب “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا” (الحج 40). ونقل الفخر الرازي عن مفسرين أن من معاني الدفع المذكور في الآية أن الله يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة. ورأى العلامة رشيد رضا ان هذه الاية صريحة في حرية الدين في الإسلام وحماية المسلمين لمعابد غير المسلمين كما فعل عمر بن عبد العزيز بملكية الكنائس والمنازل لاصحابها من النصارى وحصل قبل ذلك في زمن عمر بن خطاب في بيت المقدس. و العهدة العُمَرية لأهل القدس: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، و لكنائسهم وصلبانهم، و سقيمهم و بريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يَسكُن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وكان مدخل النصارى والمسلمين من مدخل المسجد الأموي واحد وبعدها كل يذهب الى جهته. وبعد عقود تم التفاوض مع النصارى ليصبح المسجد الأموي خالصا للمسلمين وتم تعويضهم بمساحات اخرى لبناء كنائس لهم.

 وفي تاريخ دمشق لابن عساكر وقد نهج هذا الطريق بعدهما الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز  الذي كتب إلى أحد وُلاته -وفقا لابن أبي شيبة  في المُصنَّف قائلا: “لا تهدم بِيعة ولا كنيسة ولا بيتَ نارِ صولحوا عليه” والحق أن عمر كان في رأيه هذا ممتثلا لقيَم واقعية ومُثُلٍ طبقها هو بنفسه عندما كان يحمي الكنائس وينتصر للحق إن كان مع أهلها.

يرسم الفقيه المؤرخ المقريزي  في المواعظ والاعتبار صورة مشرقة للعلاقة بين أصحاب الديانات على أرض الإسلام، فيقول إن “كنيسة مريم هدمها عليّ بن سليمان ابن عباس  أميرُ مصر وهدم كنائس محرس قسطنطين، فلما عُزل بموسى بن عيسى ابن عباس  أذِن للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها عليّ، فبُنيت كلها بمشورة (الإمامين) الليث بن سعد  وعبد الله بن لهيعة، وقالا: هو من عمارة البلاد، واحتجّا بأن الكنائس التي بمصر لم تُبْنَ إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين” إن تعبير “عمارة الأرض” الوارد في كلام الإمامين يلخص لنا الرؤية الراقية التي اتسمت بها حضارة الإسلام تجاه التعدد الديني والسماح بحرية الاعتقاد وبناء دور العباد بل وحمايتهما، وهي رؤية أيضا سباقة حتى بمعايير زمننا المؤطَّر نظريا بالمبادئ الأممية والمواثيق الدولية وتلك الروح كانت امتدادا لفكرة دستورية أعمق وضعها كبار الصحابة رسما لخطوط العلاقة بين أهل الأديان، حين عاهد الفاروقُ عمرُ بن الخطاب  أهلَ القدس مقدِّما خطابا حضاريا عُمْرانيا، فـ”أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم”.

بل إن المستشرق السويسري آدم متز  يقول في كتابه الحضارة الإٍسلامية في القرن الرابع الهجري إنه “كثيرا ما كان رجال الشرطة المسلمون يتدخلون بين فرق النصارى لمنعهم من المشاجرات” فيما بينهم، وذكر نموذجين من تلك الوقائع، مشيرا إلى محاولة الخليفة المأمون فرض الحرية الدينية قانونيا لطوائف المسيحيين ولو كان عدد إحداها عشرة أشخاص فقط، لكن رؤساء الكنائس اعترضوا على ذلك فتركه المأمون.

وفي أوج انتصارات الدولة العثمانية وتمددها، اعترض مفتيها شيخ الإسلام علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه ‘زنبيللي علي أفندي‘  على قرار أراد إصداره سلطانُها القوي سليم الأول  ويقضي بـ”حمْل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعًا، أو (أن) يخرجوا من البلاد”، فما كان من المفتي الجمالي إلا أن وقف في وجهه بحزم “وقال له: لا يحلُّ لك ذلك وليس لنا إلا أن نأخذ منهم الجزية والطاعة” وحين روى المفكر اللبناني شكيب أرسلأن  هذه الحكاية -في كتابه ‘تاريخ ابن خلدون‘ مؤكدا أن خبرها “مَرْويّ بالتواتر وفي الكتب أيضًا”- علّق عليها قائلا: “ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يَقدِر أن ينفّذ جميع ما يريده بهم، ولذلك نجد ملاحدة الترك ينتقدون دائمًا العمل بالشرع الإسلامي بحجة كونه السبب في بقاء النصارى في السلطنة العثمانية، وأن بقاءهم كان السبب في ضعف تركيا، ولذلك لما استولوا على الحكم بعد الحرب العامة  أخرجوا جميع النصارى من تركيا، ولم يبق إلا النصارى الذين في القسطنطينية فقط” لأن الأوروبيين رفضوا إجلاءهم منها.

ويصف لنا ابن جبير في رحلته وكانت أيام سيطرة الصليبيين الفرنجة على ساحل الشام عن المعاملة الرحيمة التي قابل بها سكان جبل لبنان من المسيحيين مجاوريهم من متعبِّدي المسلمين، فيقول: “من العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين (للعبادة) من المسلمين جلبوا لهم القوت ‏‏‏وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم” وقد تنبه الرحالة المسلم لتلك المفارقة بمنطق زمانه فكتب معلقا: “وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين بعضهم مع بعض”؟ وحين تحدث علامة الشام محمد ‏كرد ‏علي ‏‎ عن ‘قَصَبة الجبل‘ في لبنان قال إن فيها “إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه ‏أحد أمراء لبنان، ‏ولا ‏يزال ‏الدَّيْرِيُّون  يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة، وإن لم ‏يكن له من يقيم فيه الصلاة‎‏”.

وهذا التأريخ بأعياد المسيحيين يبدو أنه قديم نسبيا، ولم يسلم منه حتى المحدِّثون، فحين أرّخ الإمام الحافظ الخطيب البغدادي لوفاة العالم اللغوي أبي عمرو إسحق بن مِرار الشيباني، وهو أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، قال إنها كانت سنة 210هـ/825م “في يوم السّعانين -بسين مُهمَلة- وهو ‏عيدٌ من أعياد النصارى” وشاع تبادل الدعوات لولائم الزواج وغيرها وتبادل الهدايا، كما نجد في قصة الإمام عبد الله بن المبارك  مع بهرام المجوسي الذي أوْلَمَ “وليمةً عامة للمسلمين والنصارى واليهود والمجوس” وقد نقل مفتي الحنفية شهاب الدين الحموي  -في ‘غمْز عيون البصائر‘- عن فتاوى شيخ الإسلام أبي الحسن السعدي الحنفي  أن “واحدا من المجوس كان كثير المال حسن التعهد للفقراء المسلمين، يُطعم ‏جائعهم ويكسو عاريهم، وينفق على مساجدهم ويعطي دهان سُرُجِها، ويُقْرِض محاويج  المسلمين، فدعا الناس مرة إلى ‏دعوة… فشهدها كثير من أهل الإسلام، وأهدى إليه بعضهم هدايا” وقد شاهد الرحالة والفقيه الأندلسي ابن جبير  لما زار مدينة صور بلبنان عرسا مسيحيا في مينائها، ووصف بدقة تفاصيل ما جرى فيه ملاحظا أن “المسلمين وسائر النصارى من النُّظار قد عادوا في طريقهم سِماطين  يتطلعون فيهم  ولا ينكرون عليهم ذلك” وفي سنة 1156هـ/1744م أقام المشرف على حسابات ولاية دمشق فتحي أفندي الدفتري  حفلا بمناسبة زواج ابنته، “وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: (…) واليوم الثالث إلى المشايخ ‏والعلماء، (…) واليوم الخامس إلى النصارى واليهود”

من الظواهر المتكررة في التاريخ الإسلامي ما كان يقع في مدنه الكبرى من مظاهرات احتجاجية على عسف السلطات وظلمها للناس أو انعدام الأمن والاستقرار، وكان من المعتاد أن تشارك فيها أحيانا كافة الطوائف الدينية في جبهة وطنية لمواجهة الظلم والطغيان وفي سنة 394هـ/1005م تدخّل مسؤول مسيحي كبير في الدولة الفاطمية لرفع الظلم عن أهل الشام المسلمين وغيرهم، واستغل في ذلك علاقته بـ”سِتّ الملك  أخت الحاكم (الخليفة الفاطمي) وله منها رعاية مؤكدة، فكتب إليها ‏يستصرخ بها ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله… من الظلم ‏والعسف والجور، مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها ومن تجليات التلاحم بين أتباع الطوائف الدينية، ما أبدَوْه أحيانا من تضامن ومواساة في لحظات الحزن وأوقات الحرب، وصل إلى حد المشاركة في تشييع جنائز الأعيان من كل الطوائف، والقتال في الحروب وما تقتضيه ظروفها من إيواء وإغاثة‏ ومن أقدم الشواهد على ذلك وأغربها ما جاء في ‘التاريخ الأوسط‘ للإمام البخاري  و‘المصنَّف‘ للإمام المحدّث ابن أبي شيبة  روايةً عن الإمام الشَّعبي  أنه “ماتت أُمُّ الحارث بن (عبد الله بن) أبي ربيعة (المخزومي القرشي ت بعد 69هـ/690م) -وهي نصرانيةٌ- فشهدها أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم”، أي حضروا لتشييع جنازتها ويذكر الحافظ ابن عساكر  -في ‘تاريخ دمشق‘- أن هذه السيدة المسيحية اسمها “سبحاء الحبشية”، وتفيد قرائن تاريخية أن وفاتها كانت بمكة المكرمة، وذلك بعد وفاة زوجها الصحابي عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي سنة 35هـ/656م، والد الشاعر المشهور عمر بن أبي ربيعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *