download (1)

الشيخ عز الدين محمد البغدادي

الليبرالية… بين الحلول والاشكالات

سابدأ الحديث بموقف طريف، حينما جلس الي أحد المشايخ في النجف وكان سمع محاضرة عن “النبرالية” وجاء يحدثني عنها، قلت له: شيخنا، تقصد الليبرالية؟ قال: لا النبرالية، قلت له: مولانا ثق ان اسمها الللبرالية وليس النبرالية، قال: أبدا الشيخ قال نبرالية يعني نبرالية‼

عموما، الليبرالية فلسفة سياسية ظهرت في أوربا تؤكد على الحريات المدنية مع التشديد على الحرية الاقتصادية. وقد ظهرت الليبرالية الكلاسيكية في مطلع القرن 19. حيث ابتنيت على أفكار من القرن الماضي كانت استجابةً إلى نتائج الثورة الصناعية في أوربا. ومن الأشخاص البارزين الذين ساهموا في بنيتها النظرية جون لوك وجيرمي بنثام وجيمس مل ومالثوس وريكاردو وآدم سمث وغيرهم.

أساس رؤيتهم الفلسفية تبتني على الفردية، حيث أن الأفراد بطبيعتهم أنانيون، ومراوغون، وجامدون ومنعزلون، وأن المجتمع ليس سوى مجموعة من الأفراد.

لكن مع ما مرت به الرأسماليّة من أزمات، خصوصاً بعد الكساد العظيم سنة 1929, أعيد النظر في الفكر الليبرالي، ولهذا ظهر لاحقا ما عرف بالليبرالية الجديدة التي حاولت سد ثغرات في النظرية اللبرالية ولتجاوز اخطائها العملية، فظهرت ليبرالية ذات ميول اشتراكية تؤكد على مفهوم العدالة الاجتماعية، وتهدف إلى التوفيق بين حقوق الفرد والجماعة، وتسمح للدولة بالتدخل بحدود معينة، ووضع معايير أكثر إيجابية للتحقق من وجود فرص متساوية للأفراد لنيل الحرية والنجاح.

بالنسبة للبلاد العربية ظهر تيار ليبرالي عقلاني الا انه تعامل مع الجانب السياسي من الليبرالية، وربما يمكن تبرير ذلك بأنه كان ادراكا بأن ما نحتاج اليه واقعا هو الجزء السياسي من الليبرالية بسبب الاختلاف الكبير في الواقع المعاشي والثقافي الذي يجعل الفارق كبيرا بين الاصل والنسخة العربية.

وقد كان من ابرز ممثلي هذا التيار المحامي العراقي حسين جميل (1908- 2002) الذي عبر عن آرائه في مقالات كتبها، وانتصر فيها لحرية التعبير ولأسلوب العمل بالوسائل الديمقراطية، وساهم في تأسيس وإصدار جريدة “الأهالي” عام 1932.

كما ظهرت جماعة الاهالي كتعبير عن النزعة الديمقراطية العراقية ثم تفككت إلى جماعات مختلفة وكان من افرازاتها الحزب الوطني الديموقراطي الذي أسسه كامل الجادرجي ومحمد حديد (والد زها حديد) وآخرون، وبأي حال فإن صعود الايدلوجيات اليسارية والقومية اضعفت جدا هذا التوجه.

نظر الى الليبرالية على انها محاولة للاصلاح بين انظمة ملكية اقطاعية فاسدة وبين اهداف بناء دولة قانون دون الاضطرار الى الحلول الثورية عند اليساريين والقوميين معتمدة على فكرة التعددية والانتخابات.

كما كان من اهم الاشكالات التي وجهت لليبرالية العربية منذ ظهورها هي ان هذا التوجه يطرح افكارا بعيدة عن الواقع الاجتماعي لبلاد لا زالت تعيش على واقع زراعي متخلف، كما انها يمكن ان تتهم بكل سهولة بتبعيتها او عدم اتخاذها موقفا حازما من التدخلات الاجنبية، وبعضهم كان يصرح بذلك بشكل صريح حيث تجد مفكرا بمستوى طه حسين يقول: “نريد أن نتّصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءا منها لفظاً ومعنىً وحقيقةً وشكلاً”.

وهو موقف واضح الضعف ايضا فيما يتعلق بقضية فلسطين في تلك الفترة، حيث لم يكن للفكر الليبرالي موقف باستثناء تكرار الحديث عن استحالة الحرب من دون ديمقراطيّة، وهو كلام كان يبدو طوباويا وأبعد ما يكون عن الاقناع.

بعد الاحتلال في 2003 ظهرت احزاب تتبني الرؤية الليبرالية منها المؤتمر الوطني والوفاق والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأمة، فضلا عن ظهور دعاة لها منهم رجال دين مثل أياد جمال الدين (العراقي) وهاني فحص (اللبناني) وغيرهم.

إلا أن النظرة اليها من جهة التبعية للاجنبي وسوء الظن بعقلانيتها الزائفة جعل قبولها محدودا لا سيما بعد ظهور نسخة من نظرية العمل السياسي الامريكي أكثر توحشا خصوصا بعد احداث سبتمبر.

هذا فضلا عن أنه ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة ليبرالية عالمية بنسخة جديدة أسوأ تعتمد فكرة العولمة و”صراع الحضارات” لهنغتون، و”نهاية التاريخ” لفوكوياما وهي افكار صوّرت الليبرالية باعتبارها الخيار الوحيد للبشرية، وهي افكار لا يمكن باي حال ان تنفع لا من حيث قبولها ولا من حيث تأسيس دولة حقيقية.

وواقعا فإن اللبرالية تعاني مشاكل كبيرة، وهي مشاكل ستتضحم لاحقا منها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية وضعف دور الاسرة وعدم عقلنة الحرية وهذا اشكال كبير يظهر تأثيره فيما نلاحظه من ظواهر من قبيل ظهور فرق دينية غريبة مثل “عبدة الشيطان” أو نمو ظاهرة “الكلاب البشرية” بشكل خطير دون ان يملك النظام الاجتماعي السياسي قدرة على معالجة هذا الخلل. أي إن اللبرالية في منشأها الأولية هي نظام عليل، أو يحمل استعدادا لأمراض كثيرة ومدمرة لا يملك القدرة على تجاوزها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *