اسم الكاتب : رياض سعد
سيطر الرافدينيون الاوائل على الاراضي الشاسعة واستقروا فيها وحكموها , ومنها بدأت حكاية المدنية ونشأت بذرة الحكومة والدولة , وتبلورت الهويات الاجتماعية والسياسية والقومية ؛ حتى وصلت الى مرحلة انبثاق الامبراطوريات الكبيرة والعظيمة , ورافق هذا التطور العمراني والحضاري النزعات البدائية والمتأصلة في بني البشر الى يومنا هذا ؛ الا وهي حالات الصراع والاقتتال والحسد والطمع وحب التملك والسيطرة والغزو والتمدد والظلم واستعباد الاخرين وقهرهم وتهميشهم … الخ ؛ فنشبت الصراعات والحروب والغزوات بين المدن والدويلات الرافدينية الاولى ؛ ولعل هذه الاشتباكات والصراعات كانت من اهم اسباب ظهور الإمبراطوريات العراقية العظيمة , ومن ثم نشوء الحضارات والحكومات الوطنية العظيمة وقتذاك ؛ وضم العراقيون القدامى الاراضي الشاسعة ومن الجهات الاربعة الى سلطانهم وسيطرتهم العسكرية والسياسية ؛ واكتسبت هذه الاراضي سمة الهوية العراقية القديمة كالسومرية والاكدية والبابلية والاشورية ؛ وبوتيرة قوية ومتسارعة وتسابق الزمن … .
واستمر هذا المجد الرافديني لعدة قرون طويلة من الزمن , وكلما تعرضت الامبراطوريات والدويلات العراقية الى الغزوات الخارجية او الى التفكك والاضطرابات الداخلية والانقسامات الاجتماعية والسياسية ؛ اعادة بناء نفسها من جديد ونفضت الغبار عنها .
وبمرور الوقت تعلم بنو البشر من العراقيين القدامى ؛ بناء الدول والجيوش ؛ ومن ثم ظهرت العديد من الدول والإمبراطوريات المنافسة لأبناء بلاد النهرين , وبدأت هذه الدول والإمبراطوريات الاجنبية والغريبة بالتحرك نحو بلاد الرافدين ؛ بل وقضمت اراضيها التاريخية وضمتها لها بالقوة … , واستطاع الهمج والبرابرة وسكان الجبال والكهوف المتوحشين والبدو الرحل وغيرهم من الهجوم على الإمبراطوريات والدول العراقية والتوغل فيها واسقاط حكوماتها وتدمير حضاراتها … ؛ واستمرت هذه النكسة التاريخية والكبوة الحضارية عدة قرون طويلة ؛ انكفأ فيها العراقيون على انفسهم , واشتغلوا بالزراعة والصيد والتجارة والصناعة … ؛ وغادرهم المجد , الا انهم كالنار خلف الرماد , يتحينون الفرص للانقضاض على الاعداء والنهوض مرة اخرى , وتم لهم ذلك من خلال المعارك والمناوشات الجانبية مع الساسانيين والتي تكللت بالانتصار على الاحتلال الساساني واسقاطه من خلال التعاون مع عرب واعراب الجزيرة ؛ ومن ثم انتقال عاصمة الإمبراطورية الاسلامية اليهم في الكوفة بعهد خلافة الامام علي , ومن ثم رجعت اليهم في بغداد بعهد الامبراطورية الإسلامية العباسية … ؛ ودار الدهر دورته ليَرجَعَ القهقرى الى الوراء تارة اخرى , وذلك بسقوط بغداد على يد المغول , ومن بعدهم الاتراك العثمانيين , ومن بعدهم البريطانيين … ؛ حتى وصلت النوبة الى الحكومات الهجينة والتي تتدعي انها وطنية وعراقية , والتي استمرت لمدة 83 عاما تقريبا , وقد اسقطها الاحتلال الامريكي واستبدلها ولأول مرة في التاريخ العراقي المعاصر بحكم الاغلبية وباقي مكونات الامة العراقية وتحت نظام جمهوري نيابي فيدرالي ديمقراطي … .
مثلث الحملات العدوانية والغزوات الهمجية والاحتلالات الاجنبية التي واجهها العراق العظيم على مدى تاريخه الطويل ، آثارًا سلبية خطيرة تكرست آثارها على الامة العراقية ؛ فقد عمل الخط المنكوس ومنذ القدم على محو التراث الرافديني ومسخ الهوية العراقية وتهميش وتحقير وتدمير وتشويه سمعة العراقيين الاصلاء … ؛ بالإضافة الى نهب ثرواته وسلب خيراته وقضم اراضيه وسرقة تراثه … ؛ وتكريس حالة من الجهل والامية والتخلف والسلبية والانهزامية والظلامية والسوداوية والطوباوية بين اقوامه وجماعاته ؛ والسطو على عقولهم والتحكم بعواطفهم ؛ بواسطة الاعيب ومسرحيات وخدع ومؤامرات الخط المنكوس ومصاديقه الخارجيين واتباعه في الداخل .
والنقطة الجوهرية التي عمل هؤلاء الاعداء المنكوسون جيدًا على العبث بها هي التعليم والمعرفة والقوة ، حيث تم تجريد العراقيين من مصادر القوة , وحرمانهم من التعليم الجيد والمعرفة النافعة وبطرق ملتوية وخبيثة ومنكوسة ؛ لتمرير مخططاتهم السرية وتحقيق اهدافهم المسمومة ؛ والعمل على هدم البنية العراقية الاجتماعية وتشويه معالم الهوية الوطنية ومن الداخل فضلا عن الهجمات الاعلامية والثقافية والسياسية الخارجية المتواصلة والمستمرة ؛ وذلك عن طريق تغذية الانقسامات والتحزبات العنصرية والطائفية والقومية والفئوية ، والتجمعات المنكوسة والخلافات المفتعلة ، وتشجيع الحركات المنكوسة المضادة للامة العراقية …
ولا زالت هذه السياسة الشيطانية تمارس حتى اليوم ، ولكن وفق إطار جديد وروح جديدة وأسلوب جديد، وهو ما يسمى بالاستعمار النفسي ، والذي نجح في تطويع العديد من أبناء العراق ليصبحوا صواريخ موجهة ضد بلادهم ، وأقلامًا تكتب ليل نهار فقط لتكسب رضا المستعمر الغاشم والاجنبي والغريب الظالم ، بل والعمل على ترسيخ قيمه وثقافته وتقاليده التي تتقاطع مع الروح العراقية الحضارية العظيمة ، وإضفاء الطابع المنكوس في كافة جوانب مجتمعنا العراقي , والقبول بأنصاف الحلول والاوضاع المزرية ؛ لا بل حتى بالمهانة والاذلال … .
وسيبقى العراقيون الاحرار لهم بالمرصاد ؛ وها هي طلائع العراق وعلى الرغم من كل الصعاب ؛ تسعى جاهدة الان , لإحياء مشروع الامة العراقية العظيمة وترسيخ الهوية الوطنية العراقية الاصيلة الجامعة , ورأب الصدع , و إعادة المياه إلى مجاريها … .