
رياض سعد
العراقيون قد جربوا مختلف الأيدولوجيات والحركات السياسية على مر التاريخ، بما في ذلك الاحزاب والحركات الشيوعية والقومية والحركات الإسلامية ؛ ومع ذلك، فشلت هذه المحاولات في تحقيق التغيير المطلوب والنهوض بالواقع العراقي المتردي ، حيث تلاشى الحماس والدعوة لها والاهتمام بها بمرور الوقت ؛ اذ سرعان ما تخبو نارها وتنطفئ شعلتها امام التحديات الداخلية والخارجية … ؛ ولان المرء بطبعه يميل الى عشق وطنه ومسقط رأسه, ويهتم بشؤونه وقضاياه المحلية اولا وبالذات , واما القضايا الخارجية فتأتي ثانيا وبالعرض ؛ الا ان المنكوسين قد قلبوا المعادلة المنطقية , وشوهوا السليقة العراقية والغيرة الوطنية , وعملوا على تغييب الهوية الوطنية وتعطيل الطاقات البشرية في الوطن .
نعم الفشل السياسي يمكن أن يُعزى إلى عدة عوامل اخرى ايضا ، الا ان من اهمها عدم قدرة هذه الأيدولوجيات والحركات العابرة للحدود على تلبية احتياجات المجتمع وتطلعات الشعب العراقي.
منذ النشأة الهجينة للدولة العراقية المعاصرة على يد الانكليز وبقايا العثمنة والغرباء ؛ وطوال تاريخ العراق الحديث ، كانت الأنظمة السياسية في البلاد تحاول أن تبرز دورها في الشؤون العربية والإقليمية والاسلامية ، وتحشر انفها فيما لا يعنيها , وتعقد الاتفاقيات والمعاهدات الخارجية التي لا تصب بمصلحة الوطن والمواطن قط ؛ اذ كانت تلك التحركات والمحاولات البائسة تنطلق من رؤى منكوسة وعلى حساب مصالح العراق والعراقيين.
ففي فترة حكم الذيل الناصري والطرطور الطائفي عبد السلام عارف كان العراق يدار من قبل المصريين وجمال عبد الناصر, والوطن يدور في فلك السياسة المصرية الحاقدة , وكذلك في فترة حكم البعث الغاشم ، كان النظام الهجين يركز على دور العراق كقوة عربية رئيسية ، ولكن هذه السياسة أدت إلى تدهور العلاقات مع الدول العربية الأخرى، وتعريض العراق للكوارث وحروب الوكالة ومعارك النيابة والنكبات والعقوبات الاقتصادية والسياسية … ؛ اذ بددت ثروات العراق على الدول العربية واصبح العراق ملاذا لشذاذ البلدان العربية وشراذم الانظمة , ومرتزقة الشتات من الناطقين بالعربية , بحيث اضحى المصري والفلسطيني والاردني والسوداني مواطنا من الدرجة الاولى والعراقي الاصيل مواطنا من الدرجة العاشرة , بل صار العراقي اضحوكة للعرب حتى ان البعض منهم , تفاخر قائلا : ان العراقيين اصبحوا خدما للأردنيين او ان الكويتي يمارس الجنس مع المرأة العراقية مقابل دنانير معدودة او ان المصريين حلوا محل الرجال العراقيين ابان الحرب العراقية الايرانية …!!
ولعمري هذه التصرفات والقرارات يترفع عنها حتى القوادين وسماسرة الدعارة , لانهم اكثر وطنية من سفلة البعث واراذل القومجية وبقايا العثمنة …!!
وبعد سقوط النظام البعثي، حاول البعض من السياسيين العراقيين إعادة السيناريو القومي والبعثي ولكن بصيغة مختلفة، أذ حلت الشعارات الإسلامية والمذهبية والطائفية محل الشعارات القومية والبعثية ؛ ودفع العراق ولا زال ثمن هذه المغامرات والتدخلات في الشؤون الخارجية او الانخراط ضمن المحاور العابرة للحدود بما لا يرجع على العراق والامة والاغلبية العراق بخير قط .
ومع كل تلك المحاولات المشبوهة والمخططات المنكوسة، ظل الشعب العراقي متمسكًا بتراثه وتاريخه وقيمه الحضارية وثقافته، وازداد إصرارًا على ضرورة الاهتمام بشؤون المواطن العراقي وقضاياه المحلية… ؛ ولم يجانبوا الصواب في ذلك ؛ اذ ان هذا الاهتمام بالشؤون المحلية والقضايا الوطنية يعتبر عاملاً هامًا في تحديد مستقبل العراق، حيث يحتاج الشعب العراقي إلى حلول محلية تلبي احتياجاته وتطلعاته.
لذلك، يعتبر من الضروري أن تركز الأنظمة السياسية في العراق على مصالح العراق والعراقيين، بدلاً من محاولات استجداء العلاقات الخارجية أو استعراض العضلات الفارغة في المؤتمرات العربية أو حشر العراق في القضايا الخارجية وإهمال الداخل والمصالح الوطنية العليا… ؛ وهذا يتطلب أن تكون الأنظمة السياسية في العراق أكثر انفتاحًا وشفافية وبراغماتية في سياساتها، وأن تركز على تحقيق مصالح العراق والعراقيين فحسب.
ولابد للنخب الوطنية والجماهير العراقية من التركيز على بناء مستقبلهم بناءً على قيمهم وتقاليدهم الوطنية العريقة، بدلاً من الاعتماد على الأيدولوجيات الخارجية والحركات والاحزاب الغريبة والمرتبطة بخارج الحدود… ؛ والضغط على الحكومات العراقية على السير في هذا النهج السياسي الوطني والواقعي .
وما تجرأ هؤلاء الساسة والمنكوسون وطوال كل تلك العقود , من طرح بضاعتهم القومية والاممية والانفصالية والخارجية الكاسدة ؛ لولا جهل الجماهير وتغييب الوعي الشعبي واستبعاد الهوية العراقية العريقة … الخ .
وبعد البحث والقراءة التاريخية الواعية، تبين أن السبب الرئيسي في عزوف العراقيين عن الدعوات والحركات والفعاليات المحلية وتذمرهم الدائم منها ؛ والانخراط في الدعوات والاحزاب والأيديولوجيات الخارجية والعابرة للحدود ؛ هو ضياع الهوية الوطنية الحقيقية وتشظي الذات العراقية الجمعية… ؛ وهذه المخاضات والتداعيات افضت الى ظاهرة ما يسمى “بالذات الجريحة” أو “العراق الجريح”… ؛ وهذا الجرح في الذات العراقية أدى إلى ضبابية الرؤية والهوية.
هذا الجرح في الذات العراقية أدى إلى ضبابية الرؤية والهوية، ولعل أحدهم يسأل: “أيعقل أن يكون سبباً للجرح ومنتجاً له بنفس الوقت؟” ألا يعد هذا من الدور الباطل في المنطق؟ ولكن ليس بهذه الصورة، نعم جرح الذات العراقية نتج عن غياب الحس الوطني والهوية العراقية الحقيقية… ؛ إلا أن استمرار الجرح وطول مدته أدى إلى تفاقم الحالة واتساعها بمرور الزمن، إذ أضحت كالسرطان الذي يتلم الخلايا السليمة واحدة تلو الأخرى بمرور الوقت، مما أبقى العراقي في دوامة من الشك والارتباك والضياع والحيرة والتردد… ؛وان لم نسارع في علاج الذات الوطنية الجريحة فسوف يسقط الوطن ميتا ويضحى المواطن بلا هوية تميزه عن خلق الله الاخرين ورعايا الدول ؛ وعليه لابد من اعادة صياغة الثقافة العراقية وبلورة هوية وطنية حقيقية جامعة منبثقة من عمق تاريخه الطويل وهويته التاريخية المميزة.
ولتحقيق ذلك، لابد من تسخير جميع الامكانيات للبحث والتنقيب والتحليل والاستقصاء والاستنتاج العلمي… ؛ و هذا الامر سيساعد في الخروج من الحفريات التاريخية والفلكور الشعبي والثقافة المحلية بمشتركات وطنية وعلامات فارقة عراقية، تميز الدخيل من الاصيل والوطني النبيل من الخائن العميل… ؛ كما ان هذا الجهد سيساهم في تعزيز الهوية الوطنية العراقية وتحقيق الوحدة والاستقرار في العراق ؛ وسيساعد في تعزيز الوعي التاريخي والثقافي عند العراقيين، ويعزز من شعورهم بالانتماء إلى تراثهم وتاريخهم , ويحفزهم نحو بناء الحاضر والتطلع للمستقبل .
سلمت على روعة هذهالمقالة