ضياء ابو معارج الدراجي
من بين الأعمال الدرامية التي صنعت فارقًا في المشهد العراقي، يبرز مسلسل “العشرين” بوصفه تجربة فريدة، لم تكتفِ بسرد الأحداث، بل غاصت في عمق الشخصيات، محللة دوافعها وصراعاتها الداخلية، وموثقة لحظات كانت شاهدة على التاريخ. هو ليس مجرد دراما حربية، بل هو عمل فكري، يعيد ترتيب المشهد المقاوم برؤية فنية متماسكة، بعيدًا عن الشعارات أو الاستعراض.
في الحلقة السابعة (المصعد)، كان المشهد مشحونًا بحوار مكثف بين البطل الجريح والصحفية، داخل مساحة ضيقة، لكن مفتوحة على قضايا كبرى. لم يكن الحديث مجرد تحليل للواقع، بل كان تأملاً فلسفيًا في مسيرة سيد المقاومة، الشخصية التي شكلت جوهر الحلقة. كان الحوار مرآة تكشف رؤية كل منهما، حيث تجلى الفارق بين من عاش التجربة ومن وثّقها، بين من حمل السلاح ومن حمل القلم، بين من نزف في الميدان ومن كتب عن الدماء في الصفحات.
لم يكن البطل الجريح مجرد مقاتل صلب، بل كان إنسانًا يحمل أعباء الذاكرة، تتصارع داخله مشاعر الفقد والانتصار، وكان المصعد فضاءً مجازيًا يعكس الاختناق الذي يعيشه المقاوم حين يجد نفسه محاصرًا بين ماضيه ومستقبله، بين كونه فردًا وبين كونه جزءًا من منظومة نضالية.
أما حلقة الفكرة (العشرين)، فقد كانت واحدة من أكثر الحلقات تأثيرًا، حيث قدمت مشهدًا دراميًا يتجاوز السرد التقليدي، ليتحول إلى تجربة شعورية غامرة. جسّدت الحلقة الشهيد السنوار في لحظاته الأخيرة، قبل أن يستهدفه العدو الصهيوني، وكانت التفاصيل مليئة بالحياة رغم اقترابه من الموت. لم يكن المشهد مجرد وداع، بل كان رسمًا دقيقًا لشخصية من لحم ودم، تتأمل خطواتها الأخيرة، وتترك كلماتها الأخيرة كرسالة أبدية.
في هذه الحلقة، لم يتم تصوير السنوار كرمز مقدس، بل كإنسان يدرك مصيره، لكنه لا يخشاه، بل يواجهه بوعي وإيمان عميق. كان المشهد متماسكًا، بعيدًا عن المبالغة، وأقرب إلى إعادة تمثيل لحظة تاريخية شكلت ذاكرة النضال في زمننا الحديث.
من نقاط القوة في “العشرين” أن شخصياته لم تكن مجرد انعكاسات نمطية، بل كانت تحمل بعدًا نفسيًا واجتماعيًا جعلها واقعية إلى حد كبير. سيد المقاومة لم يكن خطيبًا مفوهًا فقط، بل كان قائدًا يتألم بصمت، ويفكر بعقل استراتيجي لا يتوقف عن التخطيط. أما البطل الجريح، فقد كان صوت المقاتل العادي الذي يجد نفسه وسط معركة أكبر منه، لكنه يستمر، ليس لأنه لا يشعر بالخوف، بل لأنه تجاوزه.
أما الصحفية، فكانت تمثل تحديًا آخر، بين دورها المهني، وانحيازها العاطفي لما تراه. لم تكن مجرد شاهدة، بل كانت في صراع دائم بين كونها ناقلة للحدث، وبين إحساسها الداخلي بما تراه من تضحيات.
ما جعل “العشرين” عملاً استثنائيًا هو قدرته على تقديم الحقيقة من خلال عدسة درامية، دون أن يقع في فخ الدعاية أو التوجيه المباشر. كان العمل متزنًا، لا يمجد دون مبرر، ولا يدين دون تفكير، بل وضع أمام المشاهد صورة أقرب إلى الواقع، حيث لا يوجد أبطال خارقون، بل بشر لديهم نقاط قوة وضعف، يعيشون ويموتون من أجل فكرة آمنوا بها.
إن “العشرين” لم يكن مجرد مسلسل درامي عابر، بل كان شهادة فنية على مرحلة حاسمة، وثّق خلالها لحظات من الألم والمجد، ووضعها في قالب يليق بتاريخ المقاومة. هو عمل حمل احترامًا عميقًا لكل من جسّدهم، فجعلهم أكثر قربًا من المشاهد، وأكثر رسوخًا في الذاكرة، حيث لا يموت من عاش لأجل قضية، بل يصبح جزءًا من حكاية لا تنتهي.
ضياء ابو معارج الدراجي