الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن الظالمين “وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” ﴿البقرة 124﴾ شروع بجمل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي بمراتبها: من أصول المعارف، والأخلاق، والأحكام الفرعية الفقهية جملا، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى إياه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة. فقوله تعالى: “وإذ ابتلى إبراهيم ربه” إلخ، إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة وحبائه بها، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد كبره وتولد إسماعيل، وإسحاق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، والدليل على ذلك قوله عليه السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: “إني جاعلك للناس إماما”، “قال ومن ذريتي”، فإنه عليه السلام قبل مجيء الملائكة ببشارة إسماعيل، وإسحاق، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى: “وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ” (الحجر 51-55)، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ” (هود 71-73)، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، وقوله عليه السلام: ومن ذريتي، بعد قوله تعالى: “إني جاعلك للناس إماما”، قول من يعتقد لنفسه ذرية، وكيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به؟ ولوكان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدي هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة. على أن قوله تعالى: “وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماما”، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي عليه السلام بها في حياته، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل، قال تعالى: “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ” (الصافات 102) إلى أن قال: “إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ” (الصافات 106).
ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره الآية البقرة 124 قائلا: إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى: “بكلمات”، قضايا ابتلي بها وعهود إلهية أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: “قال إني جاعلك للناس إماما”، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على أنها كانت أمورا تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الإمامة. فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: “أتمهن” راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، ومساعدته على ذلك، وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: “قال إني جاعلك للناس إماما”، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام. قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، أي مقتدى يقتدي بك الناس، ويتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى: ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ” (النساء 64)، لكنه في غاية السقوط. أما أولا: فلأن قوله: “إماما”، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: “جاعلك” واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله، إني جاعلك للناس إماما، وعد له عليه السلام بالإمامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان عليه السلام نبيا قبل تقلده الإمامة، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوة ذكره بعض المفسرين. وأما ثانيا: فلأنا بينا في صدر الكلام: أن قصة الإمامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد مجيء البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما فإمامته غير نبوته.
ويستمر العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان عن امامة خليل الله ونبيه ابراهيم عليه السلام قائلا: وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصح أن يقال له ما يئول إليه معناه وإن اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الإلهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقية، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق. والذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ” (الأنبياء 72)، وقال سبحانه: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” (السجدة 24)، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالأمر، فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، وهذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (يس 82-83)، وقوله: “وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ” (القمر: 50)، وسنبين في الآيتين أن الأمر الإلهي وهو الذي تسميه الآية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة كن الذي ليس إلا وجود الشيء العيني، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء، فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إن شاء الله العزيز. وبالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ” (إبراهيم 4)، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون، “وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ” (غافر 38)، قال تعالى: “فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ” (التوبة 122)، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح. ثم إنه تعالى بين سبب موهبة الإمامة بقوله: “لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” (السجدة 24) فبين أن الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله وقد أطلق الصبر فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السلام قوله: “وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ” (الأنعام 75)، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: “كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ” (التكاثر 5-6) وقوله تعالى: “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ” (المطففين 14-15) إلى أن قال “كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ” (المطففين 18-21) وهذه الآيات تدل على أن المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم. وبالجملة فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت متحققا بكلمات من الله سبحانه وقد مر أن الملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: يهدون بأمرنا، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية وهو القلوب والأعمال فالإمام باطنه وحقيقته، ووجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أن القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة.