فبراير 11, 2025
images

اسم الكاتب : مهند الساعدي

كان طفلاً عندما سأل شيخاً في قريته عن مكان البحر الأحمر ؟ فقال له عمي شمدريني ( امسيس لي بيه بلم ) وهو جواب طبيعي في بيئته المحلية النابضة ،في قرى المشرح الميسانية، التي تتنفس الطَرَف والظَرَفْ، وتستعين به على القهر والضيم وصعوبات الحياة، والتي شكلت شخصية ابي مسلم السهلة في تعاملها وبساطتها، والممتنعة على الحزن وأنواع الكآبات التي كان من الصعب أن تجد طريقها إلى قلبه الكبير.

ثم عندما كبر قال لي صديقنا المشترك: رايتُ ابا مسلم اليوم في (ساحة فاطمي) في قم، يتوسط اثنين من طلبة الحوزة العلمية الأفارقة، ويحدثهم بالتفصيل عن عشائرهم الأفريقية في كينيا ثم يسألهم : انتم من يا عشيرة من ذني في كينيا !؟

وسط ذهولهم وإعجابهم وتعجبهم من هذا العراقي الذي يعرف عشاير كينيا.

قال لي مرة : سافرت إلى البصرة اطلب (أعالي السند ) من صديقنا الحاج ابو شعيب البصري حول  قصته اللطيفة مع المرحوم المرجع محمد الشيرازي .

عمل معنا خمس سنوات في مشروع (تجديد فكر الدعوة ) وكان متميز الحضور في المناقشات الدعوتية واوراق العمل وعندما كتب اوراقه حول الدعوة وجمعها في كتاب ذكر أن شيخ مهند هو ملهم هذه الأوراق الاول لي . وهذا من شهامته ومصداقيته وثقته بفكره .

كان علامة الأهوار السومرية الذي لم ار اعلم منه بهذه البيئة الجغرافية، والسكانية، وثقافتها المحلية، واصول وأعراق ومنابت وأحساب وانساب اهلها . فكان يقول لي هذا من ربيعة وهذا من مضر وهذا من الزّط وهذا من النبط وهذا يهودي الأصل وذك قوقازي . ويحقق وينسب ويستدل حتى تخرج من عنده وانت مقتنع، لا تعقب من وراءه ولا تراجع بعده .

رافقتُ منذ ثلاثين سنة ونيف مكتبته العامرة منذ ان كانت خمسمائة كتاب، حتى صارت اثنا عشر الف كتاب، وكانت كتبه تحكي سيرته العلمية وفكره وثقافته العامة.

عقلية الساعدي وحقله الأصيل هو التاريخ، حتى إذا جلست اليه، تحسب ان عمره ألفين او ثلاثة الاف سنة. لديه بحث رجالي قيم عن المعلى بن خنيس، وكتاب كبير عن تاريخ الأهوار من جملة كتب كثيرة وبحوث ودراسات واستشارات لم ينقطع عن كتابتها حتى انقطع نفسه الأخير عزّ علينا من نفس طيب .

كان ابو مسلم يومن بثلاثة : السبيتي ومرتضى العسكري وعبد الزهرة عثمان، وكانت كل  تجربته السياسية الحزبية داخل هذا المربع الذي لم يغادره وان غادروا حياته تباعاً. وقد فشلت كل محاولاتي في نقد السبيتية الحزبية أمامه، وزعزعة إيمانه بها، رغم علمه انني احب ابي حسن وكتبت عنه ، لكنني قلت له هو زعيم يسار الدعوة وبعيد عن فهم المرجعية .

وفشلتُ في نفس المستوى تقريباً في إقناعه بتغيير نظام حياته الصحي في الأكل وأوقات النوم ( كانت النوبة ألقلبية  التي توفي فيها نتيجة لهذا الاهمال، وكنت أقول له لماذا لا تكون مثل الفيسلوف ابن القرية الجنوبية مثلك، صديقنا العلامة الرفاعي الكبير الذي يهتم بصحته كثيرا ويراقبها) لكن هذه النصايح المشفقة كانت مع حسين چلوب السهل التلقائي المرح ( نواعي عد راس ميت ) . 

اسميه حسين چلوب الساعدي وفاء لرغبته، اذ اشرت عليه عندما اعاد جمع ثقافة الدعوة الإسلامية في عدة مجلدات ( وهي النشرات السرية لحزب الدعوة الإسلامية ١٩٥٧-١٩٨٢) ان يرفع عن الكتاب اسم ( چلوب) ويكتب ( حسين الساعدي ) فقط ! فقال لي : لا خوية چلوب هويتي شسوه بدون چلوب .

مات والده وهو طفل صغير، وعوضه الله بام ساعدية عمايرچية، لو كلفها الله بمئة ولد مثل حسين لربتهم وإحاطتهم حناناً وأصالة . ( كانت مؤمنة تقوم لصلاة الفجر قبل وقتها وتشد عصابتها الجنوبية التي لم تتخل عنها، وتذهب إلى  المسجد المجاور لبيتهم) وكنت عندما اصل من أهوار الناصرية إلى مدينة (قم ) يكون هو اشوق من ينتظرني، لشغفه غير المنقطع، بالأهوار والجنوب والدعوة والجهاد والتحولات الفكرية والثقافية والسياسية لشعبنا التي كان يسألني عنها بالتفصيل حتى يكاد أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر، ونسمع صوت ام حسين من الغرفة المجاورة : يم حسين .. ناموا أنت وهذا ابن حجي لازم ، ترة سوالف الحزب ما تخلص .

وفعلا كانت سوالف الدعوة الإسلامية لا تنتهي عند حسين چلوب، وكان مؤمناً منقوعاً بخط الدعوة الإسلامية المباركة، ينسى نفسه وينسى الدنيا إذا ما تحدث بهذا الهم الرسالي الكبير .

لم ار حيياً من صحبة الربع اشد حياءً من ابي مسلم، كانه الفتاة في خدرها. ولم يكن يفوق  هذا الحياء وهو شعبة من الايمان،  إلا كرمه الكبير حيث كان مضيفه اينما حلت قدمه،  فبيته في ميسان مضيف، ومؤسسة الهدى مضيف، وشقته في الكرادة مضيف، ومكتبه في البرلمان او الوزارة او الحشد مضيف هو الاخر.

كنت اتعجب كيف انتج وكتب وحقق !؟ هذا القروي في أسلوب حياته الذي لا تكاد حين تدخل مكتبه تفرق بين المدير والسكرتير والسائق والخادم والحارس حيث يبدو الجميع من ( حبال المضيف ) ! رداً إلى تواضعه الجم الذي كان يكبر كلما كبر شأنه الاجتماعي والسياسي .

كان حسين من دائرة اصدقائي الخُلص الضيقة، الذين استخلصتهم لنفسي  ووعي ،  التي ساهمت في تقويم شخصيتي، وكان مشاورا دائما لا اتذكر انني اتخذت قرارا مهما في الثلاثين سنة الأخيرة  دون اطلاعه عليه، وكما كان يفعل هو تماماً.

لكنه لم يسمع كلامي عندما قلت له لا تعمل مع تيار الإصلاح الجعفري لانه لن يضيف شيئاً إلى تجربتك، مثلي بالضبط حين لم اسمع مشورته بعدم الاصطدام بالمالكي الذي كان يقول عنه ( خوش زلمة وزين للشيعة لا تخسره يا ابا أصادق ) .

احببت في ابي مسلم أشياء كثيرة، اهمها خلقه العالي، وخفة ظله، وعلمه وادبه وظرافته. لا يحب العلمانيين ، وابتليت مرة بمجلس اضطرّتني فيه الصدفة وحدها، ان يجتمع في مجلسي هو وفايق الشيخ علي، فهمس  في أذني صديقنا الثالث اللطيف الدكتور خزعل غازي : ابو صادق فضها بسرعة هذولة ديك  اسلامي وديك علماني لا يتعاركون !

ولم يكن ابو مسلم ممن يتعارك أبدا وكان يقول احترم راي عبد الرزاق الحسني في تقييمه الايجابي لياسين الهاشمي وكان ابو مسلم يحترم المرحوم  احمد الچلبي وقال له انك محرر العراق .

تعلم من فكر السبيتي الدعوة على اصولها ( نسخة السبيتي المشروحة له من ابي ياسين ) وكان اخواني التربويات وتحريري في التحليلات وداعية في الفكر والأدبيات وشيعي حد النخاع في العقائد والتاريخ والانتماء.

رحمك الله يا ابا مسلم فقد أوحشت الربع واهله من بعدك، كنت خليلي الذي أضنى القلب، وأحزن الروح، وأنذرنا بمواعيد الرحيل الصعب.

استلك الزائر الأخير من بين كتبك، كما كنت تستلّها شوقاً، وأظنك متَّ وانت مبتسم ابتسامتك الأخيرة .

المودع لك  : مهند الساعدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *