
نزار حيدر
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
السُّلطةُ تقُولُ {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فقَولُها وفِعلُها وتقريرُها صحيحٌ لا يجُوزُ لأَحدٍ أَن يُخطِّئ الحاكم أَو يتَّهمهُ أَو يُشكِّك في نواياهُ، خاصَّةً إِذا تربَّعَ على العَرش بلَبُوسِ الدِّين، ففي هذهِ الحالة يُمثِّلُ ظِلُّ الله في الأَرض!.
أَمَّا الرَّعيَّة [الشَّعب] فالأَعمُّ الأَغلب يرَونَ وقد يعتقِدُونَ أَنَّ السُّلطة تعرفُ ما تفعلهُ فما لنا والدُّخُول بينَ السَّلاطين؟! لماذا نتدخَّل فيما لا يعنِينا؟! ولماذا نُشغِل بالنا بأُمُورٍ نعرفُ حقَّ المعرِفة أَنَّ [وليَّ الأَمرِ] قائمٌ بها على أَحسنِ حالٍ؟!.
حتَّى الفاحِشة يُقلِّدُونَ فيها الحكومة ولذلكَ ترى أَنَّ فواحِش السُّلطة تتحوَّل إِلى ثقافةٍ في المُجتمعِ.
يقُولُ تعالى {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗقُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ}.
وعندما تنقلِبُ المفاهيم وتشيعُ الفِتنة بسببِ ذلكَ {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} تارةً بالإِعلامِ الأَصفرِ وأُخرى بإِخفاءِ المعلومةِ الصَّحيحةِ وثالِثةً بالتَّفاهةِ وخِفَّةِ العقلِ {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} يشخصُ هُنا دَور الرُّسُل والأَنبياء والمُصلِحُونَ في المُجتمعاتِ البشريَّةِ {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} والذي يتلخَّصُ في مسؤُوليَّة الأَمر بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكرِ لتمييزِ المفاهيمِ وتصحيحِها وتعديلِها وبالتَّالي لوقفِ الفتنةِ بغضِّ النَّظرِ على حجمِ التَّأثيرِ الذي يتركُونهُ.
يقُولُ تعالى يتحدَّثُ عن فلسفةِ البعثةِ {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ}.
هذهِ هي أَصلُ الفلسفةِ.
أَمَّا الأُسلوب والوسيلة والطَّريقة فتختلِفُ من نبيٍّ لآخر ومِن رسولٍ لآخر ومِن مُصلحٍ لآخر، حسب الظُّرُوف والإِمكانيَّات وطبيعَة الظَّالِم وظُلمهِ، فإِذا قرأنا تجارِب الرُّسُل والأَنبياء بهذا الصَّدد في القُرآنِ الكريم فسنجدَها على ثلاثةِ أَنواعٍ هي الأَبرزُ رُبما؛
أ/ تجربةُ نبيَّ الله موسى (ع) وأَخيهِ هارون (ع) والتي تشرحَها الآيات الكريمة {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}.
ومعَ ذلكَ إِلَّا أَنَّ النَّتيجة كانت ردَّ فعلٍ سلبيٍّ وسيِّءٍ وعنيفٍ من فِرعون بإِزاءِ دعوتهِما الهادئة ولُغتهِما اللَّينَّة رُبَّما لأَنَّهُ فسَّر إِستخدام مُوسى (ع) لـ [القُوَّة النَّاعمة] معهُ ضعفاً أَو عجزاً فكانَ ردَّهُ إِرهابيّاً بكُلِّ معنى الكلِمة.
يصفهُ تعالى بقولهِ {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} وقولُهُ تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
ب/ تجربةُ نبيَّ الله إِبراهيم (ع) الذي استخدمَ القوَّة في الأَمرِ والنَّهي عندما قرَّرَ تحطيمَ آلهتهُم بعدَ أَن يئسَ من إِلزامهِم الحقيقة بالمنطقِ والحوارِ والعقلِ على الرَّغمِ من إِقرارهِم بها وعدمِ نكرانهِم لها، وذلكَ في معرضِ الحِوارِ والجدالِ الطَّويلِ الذي يذكرهُ القُرآن الكريم.
وكانت النَّتيجة ذاتها عندَما أُسقِطَ في أَيديهِم وواجهُوا الحقيقة التي كانت مرَّةً عليهِم.
يصفُ كُلَّ ذلكَ القرآن الكريم بقولهِ {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِۦ لَإِبۡرَٰهِيمَ* إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ* إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ* أَئِفۡكًا ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ* فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ* فَنَظَرَ نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ* فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ* فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِينَ* فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ* مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ* فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡيَمِينِ* فَأَقۡبَلُوٓاْ إِلَيۡهِ يَزِفُّونَ* قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ* وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ* قَالُواْ ٱبۡنُواْ لَهُۥ بُنۡيَٰنٗا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِيمِ* فَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِينَ}.
ج/ تجربةِ نبيَّ الله نوح (ع) الذي استخدَمَ كُلَّ وسائل التَّبليغ للأَمرِ والنَّهي وفي كُلِّ الأَوقاتِ! إِلَّا أَنَّ النَّتيجة كانت في غايةِ السلبيَّةِ والخطُورةِ فيما كانت النَّتائِج بائسةٌ جدّاً ولذلكَ لم يكُن أَمامهُ إِلَّا أَن توجَّهَ إِلى الله تعالى يدعُو على قومهِ بالهلاكِ والإِستبدالِ.
يقولُ تعالى {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا* فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا* ثُمَّ إِنِّيٓ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارٗا* فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا* يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا* وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا* مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا* وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا* أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا* وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا* وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا* ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجٗا* وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطٗا* لِّتَسۡلُكُواْ مِنۡهَا سُبُلٗا فِجَاجٗا* قَالَ نُوحٞ رَّبِّ إِنَّهُمۡ عَصَوۡنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمۡ يَزِدۡهُ مَالُهُۥ وَوَلَدُهُۥٓ إِلَّا خَسَارٗا* وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا كُبَّارٗا* وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا* وَقَدۡ أَضَلُّواْ كَثِيرٗاۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا ضَلَٰلٗا* مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمۡ أُغۡرِقُواْ فَأُدۡخِلُواْ نَارٗا فَلَمۡ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارٗا* وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا* رَّبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيۡتِيَ مُؤۡمِنٗا وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۖ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارَۢا}.
وهوَ ذات المَوقِف الذي نقرأَهُ في حياةِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) عندما [يئِسَ] من أَصحابهِ لتكرارِ ظاهِرةِ الخِذلانِ والعِصيان الذي يُنتِجهُ الجُبن والتردُّد والشَّك.
يقُولُ (ع) {اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ ومَلُّونِي وسَئِمْتُهُمْ وسَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وأَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي، اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ}.
٢٠٢٥/٣/١٤