download (1)

علي المؤمن

   ربما يتذكر كثيرٌ من النجفيين، الذين تزيد أعمارهم على (60) عاماً، مجلسين مهيبين في النجف الأشرف في سبعينات القرن الماضي، رغم قصر عمريهما؛ فقد كانا ملفتين ومحفورين في الذاكرة النجفية، بسبب جرعات التوعية الإيمانية والثقافية النوعية التي كانا يبثانها في الحضور، أحدهما مجلس رمضاني في مسجد الطوسي في طرف المشراق، يحاضر فيه المرحوم الشيخ محمد حسين سيبويه، والآخرُ مجلسٌ عاشورائيٌّ في جامع الخضراء الملاصق للحضرة العلوية، ويحاضر فيه الشيخ عبد العظيم الكندي.

    بعد العام 1971، كان والدي يصطحبني لحضور مجلس الشيخ سيبويه، الذي يُقام بإشراف السيد محمد تقي بحر العلوم، وكنت أحس بقلبي ينخلع وجداً وأنا استمع إلى الشيخ سيبويه وكلماته الروحية والمعنوية الدينية المتعالية؛ فقد كانت تغسل القلوب، وتحيي الأرواح والضمائر. ثم تعقب محاضرته الأدعيةُ ومجالس العزاء، وخاصة في أيام ذكرى جرح الإمام علي واستشهاده. وكان الشيخ سيبويه يذكر لحظات تسليم روح أمير المؤمنين لبارئها، وهو يلطم رأسه ويبكي بحرقة، وحينها تكون الأضواء قد أُطفئت، عدا الأضواء الحمراء؛ فيضج جامع الطوسي بالصراخ والعويل واللطم، حتى تكاد تتخيّل أن المنبر والجدران والسقف وشارع الطوسي، كلها تضج بالبكاء على مصاب علي بن أبي طالب. وبعد نهاية المجلس؛ كنا أحيانا نرافق الشيخ سيبويه إلى بيت الإمام علي في الكوفة، ثم نعود إلى مرقده في النجف، ليلة ذكرى استشهاده.

    كان مسجد الطوسي وساحته يمتلآن بالحضور وصولاً الى الشارع خلال إلقاء الشيخ سيبويه محاضرته، وكان المجلس يغص بالشباب وجميع شرائح المجتمع، إلى جانب المراجع وكبار علماء الدين، وكان يحضره أحياناً السيد محمود الشاهرودي، والسيد الخوئي، والإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، وكان مكاني غالباً داخل قاعدة (المبردة) بين ساحة المسجد والرواق الداخلي، أشاهد الحضور وأتأمل الداخل والخارج، وأحياناً أقوم قبل بدء المجلس بتوزيع الماء.

    ورغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك المجلس المهيب، إلا أن مواعظ الشيخ سيبويه ونصائحه التربوية والمعنوية لا تزال ترن في أذني؛ لأنه لم يكن مجرد مجلس، وإنما ظاهرة اجتماعية دينية، وتظاهرة روحية معنوية تقشعر لها الأبدان، وهو ما جعل نظام البعث يتنبّه لها؛ فكان مدير أمن النجف يستدعي الشيخ سيبويه باستمرار ويحذره أو يعتقله أحياناً لبضعة أيام، برغم أن الشيخ لم يكن يتعرض للنظام وممارساته وعقيدته إطلاقاً، وإنما كان النظام يرى أن أصل التوعية العقدية والإيمانية هي خطر كبير عليه. وكان الحل النهائي بمنع الشيخ محمد حسين سيبويه من دخول العراق عبر مطار بغداد، حين عاد من زيارة الإمام الرضا في العام 1975، وهو المولود في العراق، ونجل أحد مراجع كربلاء؛ ليتحول جامع الطوسي في رمضان اللاحق إلى ظلام في شكله وجوهره، وتنطفئ فيه شعلة الموعظة والتربية والتعليم؛ فكنت أحس بوجع واكتئاب وأنا أتطلع إلى الجامع المغلق ومنبره الذي يبكي سيبويه.

   بعد عام تقريباً، حسبما تسعفني الذاكرة، أي في العام 1976، أخبرني ابن عمتي المرحوم السيد مهدي سنبة في بداية شهر محرم، بوجود مجلس عاشورائي في جامع الخضراء، يقيمه خدام الروضة الحيدرية، ويديره المرحوم السيد هادي الخرسان، وهو من أصحاب الوعي والفضل، ويقرأ فيه شاب عراقي يُدعى الشيخ عبد العظيم الكندي.

    ذهبنا إلى جامع الخضراء، وفوجئت، كغيري، بالمحاضِر والمحاضَرة والحضور. كان أكثر حضور المجلس من الشباب بـ (دشاديشهم) وقمصانهم السوداء، والذين ملأوا الجامع عن آخره، وكانوا يصغون بعناية فائقة، دون أن يمنعهم ذلك من تبادل النظرات وبعض الهمس، كلما تعرّض الشيخ الكندي إلى موضوع حساس أو قال كلمة أو جملة فيها إشارة خفية إلى واقع العراق.

    وكاد مجلس الشيخ الكندي ينتهي بعد ثلاثة أيام من بدايته، حين استُدعي الشيخ إلى مديرية أمن النجف، بسبب نوعية المواضيع التثقيفية التوعوية التي يطرحها، لو لا تدخل المرحوم السيد حسين الكليدار، سادن الروضة الحيدرية، الذي أنقذ الكندي ومجلسه. غير أن مجلس الشيخ الكندي في جامع الخضراء لم يستمر؛ إذ لم يحاضر فيه سوى عشرة أيام ولموسم واحد فقط؛ ليخبو وهج التوعية في جامع الخضراء أيضاً، كما خبا في جامع الطوسي قبل ذلك بسنة واحدة.

   كان الشباب النجفي نفسه يحضر المجلسين، وينجذب إليهما، ويستفيد منهما، رغم التباين الشكلي والمنهجي بينهما؛ فالشيخ محمد حسين سيبويه، الكربلائيُّ المولد، ذو الأصل الخراساني الإيراني، كان في السبعينات من عمره، ولون لحيته كبياض الثلج، ويتحدث العربية بلكنة فارسية واضحة، بينما كان الشيخ عبد العظيم الكندي، ابن الجنوب العراقي، في العشرينات من عمره، ويتحدث العربية بلهجة أهل الجنوب، وكان حليق اللحية، وهو ما كان يثير الاستغراب، حتى عرفنا أنه كان حينها ضمن الخدمة العسكرية الإلزامية.

وكما كان الشيخ سيبويه بليغاً عميقاً يدخل القلوب ويقتحم الوجدان والروح؛ فقد كان الشيخ الكندي الشاب بليغاً عميقاً أيضاً، لكنه يخاطب العقول، لأنه كان يطرح موضوعات اجتماعية وثقافية تمس الواقع، وتمنح الحضور جرعات توعوية وحركية، وهو ما كان يجعل كبارنا يقولون حينها بأن الشيخ الكندي امتدادٌ للعميد الشيخ أحمد الوائلي وخليفته.

   ولا شك أن مجلسي الشيخ سيبويه والشيخ الكندي، كانا يكملان بعضهما، وكلاهما مهم وضروري في عملية التوعية والتثقيف والتربية؛ فأحدهما كان يخاطب الروح و يحفزها على الالتصاق بقواعد الإيمان، والثاني يخاطب العقل ويحفزه على التفكير. ونتحسس الآن أهميتهما لوعظ أجيال الشباب وتوعيتها وتثقيفها دينياً واجتماعياً وأخلاقياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة “كتابات علي المؤمن” الجديدة وارشيف مقالاته ومؤلفاته بنسخة (Pdf) على تلغرام: https://t.me/alialmomen64

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *